وهكذا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن هناك كثيراً من القرى لم تؤمن إلا وقت العذاب، فلم ينفع أيّاً منهم هذا الإيمان، ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا الإيمان فَقَبِل الحق سبحانه إيمانهم لأنه سبحانه لا يظلم عباده. فمَنْ وصل إلى العذاب، وأعلن الإيمان من قلب العذاب لا يُقبَلُ منه، ومن أحس واستشفَّ بواكير العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله. وكلمة " لولا " إذا سمعتها فمثلها مثل " لوما " ، وإذا دخلت " لولا " على جملة اسمية فلها حكم يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية، فحين تدخل على جملة اسمية مثل: " لولا زيد عندك لأتيتك " تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد، لكنها إن دخلت على جملة فعلية فيقال عنها: " أداة تحضيض وحَثّ " مثل قول الحق سبحانه:{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ.. } [التوبة: 122]. أي: أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ.. } [يونس: 98]. أي: أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لأنجيناها كما أنجينا قوم يونس، أو كنا نحب أن يحدث الإيمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب. إذن: فقوم يونس هنا مُسْتثنون لأنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب. وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة، يقول فيها الحق سبحانه:{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143-144]. أي: أن الذي منع يونس عليه السلام أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح. وهنا يبيِّن الحق سبحانه الاستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول: { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [يونس: 98]. أي: أن الإيمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب. ولذلك يقول الحق سبحانه: {.. لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [يونس: 98]. ونحن نعلم أن كلمة " قرية " تعني: مكاناً مُهيّأ، أهله متوطنون فيه، فإذا ما مَرَّ عليهم زائر في أي وقت وجد عندهم قِرىً أي: وجبة طعام. ونحن نجد من يقول عن الموطن كثير السكان كلمة " بلد " ، وهؤلاء من يملكون طعاماً دائماً، أما من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إلا القليل الذي يكفيهم ويكفي الزائر لمرة واحدة. وتسمى مكة المكرمة " أم القرى " لأن كل القرى تزورها.