الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }

ونحن نعرف أن الإنسان مكوَّن من بدن، وهو الهيكل المادي المصوَّر على تلك الصورة التي نعرفها، وهناك الروح التي في البدن، وبها تكون الحركة والحياة. وساعة نقول: " بدن " ، فافهم أنها مجردة عن الروح، مثلما نقول: جسد. وإذا أطلقت كلمة " جسد " فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح. والحق سبحانه هو القائل:وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. } [ص: 34]. وكان سيدنا سليمان - عليه السلام - يستمتع بما آتاه الله سبحانه من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات، وكان صاحب الأوامر والنواهي والهيمنة، ثم وجد نفسه قاعداً على كرسيه بلا حراك وبلا روح، ويقدر عليه أي واحد من الرعية، ثم أعاد الله له روحه إلى جسده، وهو ما يقوله الحق سبحانه:.. ثُمَّ أَنَابَ } [ص: 34]. أي: أنه أفاق لنفسه، فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه، لا أمر نابع من ذاته. وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه: { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. } [يونس: 92]. وباللهِ، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون، أما كان من الجائز أن يقولوا: إنه إله، وإنه سيرجع مرة أخرى؟ ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته، فيعرفوا أنه مجرد بشر، ويصبح عبرة للجميع، بعد أن كان جباراً مسرفاً طاغية يقول لهم:مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي.. } [القصص: 38]. وبعض من باحثي التاريخ يقول: إن فرعون المقصود هو " تحتمس " ، وإنهم حلَّلوا بعضاً من جثمانه، فوجدوا به آثار مياه مالحة. ونحن نقول: إن فرعون ليس اسماً لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، ولعل أجساد الفراعين المحنطه تقول لنا: إن علة حفظ الأبدان هي عبرة وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها. وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون، فقال الحق سبحانه:وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [الفجر: 10]. ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد:إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 14]. ونلحظ أن كلام الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلاماً يضمُّ إلى جانب حضارة الفراعنة حضارات أخرى قديمة، مثل حضارة عاد وحضارة ثمود. وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلام، ولكن الكلام يختلف في قصة يوسف عليه السلام، فلا تأتي وظيفة الفرعون، بل يحدثنا الحق سبحانه عن وظائف أخرى، هي وظية " عزيز مصر " - أي: رئيس وزرائها - ويحدثنا الله سبحانه عن ملك مصر بقوله:

السابقالتالي
2 3