الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ }

وإذا كان السحرة - وهم عُدَّة فرعون وعتاده لمواجهة موسى - أعلنوا الإيمان، فعاقبهم الفرعون وقال:آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ.. } [طه: 71]. فهذا يدل على أن فكرة الألوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله ولذلك خاف الناس من إعلان الإيمان ولذلك قال الحق سبحانه: { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ.. } [يونس: 83]. وكلمة " ذرية " تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشراً، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خُلُوٍّ من المشاكل، ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا: { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ.. } [يونس: 83]. وكلمة { عَلَىٰ خَوْفٍ } تفيد الاستعلاء، مثل قولنا: " على الفرس " أو " على الكرسي " ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكّناً من المستعلى عليه " ومن يستعلي إنما يركب المستعلي، ويحمل المستعلي العبء. ولكن من استعمالات " على " أنها تأتي بمعنى " مع ". ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ.. } [الإنسان: 8]. أي: يطعمون الطعام مع حبه. وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فلا بد من علة لذلك. ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى:فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ.. } [طه: 71]. جاء الحق سبحانه بالحرف " في " بدلاً من " على " ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليباً قوياً، بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه. وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى:وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ.. } [الإنسان: 8]. فكأنهم هم المستعلون على الحب ليذهب بهم حيث يريدون. وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: { عَلَىٰ خَوْفٍ.. } [يونس: 83]. أي: أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقُّع الآلام. وهم هنا آمنوا: { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ.. } [يونس: 83]. والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبيِّن لنا أن الخوف ليس من فرعون لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله، فمثلهم مثل زُوَّار الفجر في أي دولة لا تقيم وزناً لكرامة الإنسان. وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته. والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم. وقال الحق سبحانه هنا: { يَفْتِنَهُمْ } ، ولم يقل: " يفتنوهم " ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون. وهكذا جاء الضمير مرة جمعاً، ومرة مفرداً، ليكون كل لفظ في القرآن جاذباً لمعناه. وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى ذرية قالوا: إن المقصود بها امرأة فرعون آسية، وخازن فرعون، وامرأة الخازن، وماشطة فرعون، ومَنْ آمن مِنْ قوم موسى - عليه السلام - وكتم إيمانه.

السابقالتالي
2