الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ }

وفي هذه الآية ما يوضح رد سيدنا موسى عليه السلام: { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا.. } [يونس: 77]. والذين يتوركون على القرآن يقولون: كيف يأتي القرآن ليؤكد أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين، ثم يأتي في الآية التي بعدها ليقول إنهم قالوا متسائلين: أسحرٌ هذا؟ وفَهِم هؤلاء الذين يتوركون على القرآن أن كلمة { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } من كلماتهم، ولكن هذا هو قول موسى عليه السلام، وكأن موسى عليه السلام قد تساءل ليعيدوا النظر في حكمهم: هل ما جاء به سحر؟ وهذا استفهام استنكاري، وأريد به أن يؤكد أن هذا ليس بسحر، ولكن جاء بصيغة التساؤل لأنه واثق أن الإجابة الأمينة ستقول: إن ما جاء به ليس سحراً. ولو جاء كلام موسى - عليه السلام - كمجرد خَبَر لكان يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، لكنه جاء بصيغة الاستفسار لأن المكذِّب له سيجيب بلجلجة. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - أنت حين تذهب لشراء قماش، فيقول لك البائع: إنه صوف خالص ونقي، فتمسك بعود كبريت وتشعل النار في خيط من القماش، فإن احترق الصوف كما يحترق البلاستيك أو القماش الصناعي، فأنت تقول للبائع: وهل هذا صوف نقي يا رجل؟ وهنا لن يجيب البائع إلا بالموافقة، أو بصمت العاجز عن حجب الحقيقة. إذن: أنت إن طرحت الأمر باستفهام إنكاري فهذا أبلغ من أن تقوله كخبر مجرد لأن السامع لك لا بد أن يجيب. وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلام: { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ.. } [يونس: 77]. يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمَّن جاء به. ولذلك لم يقل موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جئناكم به: إنه سحر مبين؟ إن القول الحكيم الوارد في الآية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمّن جاء به. وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {.. أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } [يونس: 77]. إذن: فسيدنا موسى - عليه السلام - قد أصدر الحكم بأن السحر لا ينفع، ولكن الآيات التي جاء بها من الحق سبحانه قد أفلحت، فقد ابتلعت عصاه - التي صارت حية - كل ما ألقوه من حبالهم وكل ما صنعوه من سحر. وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة من جنس ما نبغ فيه القوم. فالله سبحانه حين يرسل معجزةً إلى قوم يجعلها من جنس ما نبغوا فيه لتكون المعجزة تحدياً في المجال الذي لهم به خبرة ودربة ودراية فأنت لن تتحدى رجلاً لا علم له بالهندسة ليبني لك عمارة، ولكنك تتحدى مهندساً أن يبني لك هرماً لأن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم، أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرَّغوا الهواء بين كل حجر وآخر فتماسكت الحجارة.

السابقالتالي
2