الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ }

وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجوداً ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى. وكلمة { بَعَثْنَا } هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج. وحين يرسل الحق سبحانه رسولاً، فهو لا ينشىء منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً، ليذكِّر الفطرة السليمة. وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الإرسال " ، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب. ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم - عليه السلام - جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى. وبعد نوح - عليه السلام - بعث الحق سبحانه رسلاً، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ.. } [يونس: 74]. أي: من بعد نوح، فمسألة نوح - عليه السلام - هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي لأن نوحاً عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعاً أيضاً، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يُبعث رسولاً عامّاً للناس جميعاً، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولاً لكل الناس لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة. والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين: مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين. وهكذا صار نوح - عليه السلام - رسولاً عامّاً بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان. وهنا يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ.. } [يونس: 74]. فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليهم السلام؟ لا لأنه سبحانه وتعالى هو القائل:مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.. } [غافر: 78]. وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم، مثلما قال سبحانه:وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]. فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلاً منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع.

السابقالتالي
2 3