الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }

والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته يأتي بالفَلاَح كنتيجة لذلك الإيمان، فهو سبحانه القائل:قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [الشمس: 9]. وهو سبحانه القائل:قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 1]. ويقول أيضاً:أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 157]. وكلها من مادة " الفلاح " وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي، فمقومات وجود الكائن الحي: نَفَس، وماء، وطعام، والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض، والماء ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الأرض. والطعام يأتي من الأرض، وكل ما أصله من الأرض يُستخرج بالفلاحة. لذلك نقول: إن الفِلاَحة هي السبب الاستبقائي للحياة، فكما يُفْلِح الإنسان الأرض، ويشقها ويبذر فيها البذور، ثم يرويها، ثم تنضج وتخرج الثمرة، ويقال: أفلح، أي: أنتجت زراعته نتاجاً طيباً. وشاء الحق سبحانه أن يسمِّي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح. وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد. وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئاً في الدنيا أنه يُنْقِص ما عندك، لا، بل هو يُنمِّي لك ما عندك. والمثل الذي أضربه دائماً - ولله المثل الأعلى - نجد الفَلاَّح حين يزرع فداناً بالقمح، فهو يأخذ من مخزنه إردباً ليستخدمه كبذور في الأرض، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له: " أنت أخذت من القمح، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟ " هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المُخَزَّن ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردّباً من القمح. كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها. إذن: فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة. وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا. ومثال ذلك: الفلاح الذي يحرث الأرض، ويحمل للأرض السماد على المطية، ثم يستيقظ مبكراً في مواعد الري، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى، ويسهر الليل أمام التلفزيون، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته. وقول الحق سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [يونس: 69]. أي: هؤلاء الذين يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله، هم الذين لا يفلحون. وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء؟ نعم، إن كل حركة في الحياة لا بد أن يكون الدافع إليها نفعاً، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسباً غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّياً بخيرٍ آجِلٍ.

السابقالتالي
2