الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }

والخطاب هنا للناس جميعاً لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى:يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ.. } [البقرة: 104]. فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج. والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّةً بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه:يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ.. } [النساء: 1]. أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ.. } [البقرة: 183]. ومثل قول الحق:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى.. } [البقرة: 178]. أي: أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائماً في الأحكام التي يخطاب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجِد، فهذا يكون خطاباً للناس كافة. والحق سبحانه يقول هنا: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ.. } [يونس: 57]. والأية هنا تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطي للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر وتحضُّ على الإيمان. والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلَفْظ ٍمؤثِّر، ويقال: فلان واعظ متميز، أي: أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائماً أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء لأن الموعوظ قد يقول في نفسه: لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدَّر الواعظ هذا الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه. ولنتذكر الحكمة التي تقول: " النصح ثقيل، فلا تجعلوه جَدَلاً، ولا ترسلوه جَبَلاً، واستعيروا له خِفَّة البيان " وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالأسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه. والموعظة تختلف عن الوصية لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهَبْ أن إنساناً مريضاً وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقولم بكتابة وَصِيَّته، ويوصيهم بعيون المسائل. والحق سبحانه يقول هنا: { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ.. } [يونس: 57]. والموعظة إما أن تسمعها أو ترفضها، ولأنها موعظة قادمة { مِّن رَّبِّكُمْ } فلا بد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله لأن الإله يريدك عابداً، لكن الرب هو المربِّي والكفيل، وإن كفرت به. وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي: أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع ما بين قسمين: القسم الأول هو مقوِّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق - وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر - والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط. إذن: فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم لأنه هو الذي خَلَق من عَدَم وأمَدّ من عُدْم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق.

السابقالتالي
2