الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

وساعة يأتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء. وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السماوات وما في الأرض. ولكن هل يتأتى لأحد - غير الله سبحانه - أن يملك السماوات والأرض؟ طبعاً لا. إذن: فالشر لا يتأتَّى. وهَبْ أنه تأتَّى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السماوات وما في الأرض لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة. ولذلك إن لم يردع الله - سبحانه وتعالى - الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها. وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً، أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس. وهَبْ أن واحداً ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول: خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في الجمارك فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة. وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه:وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48]. وقال الحق سبحانه في آية أخرى:وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 123]. وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة. والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين لأن القارىء لصَدْر كل آية منهما، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها. ومن يقرأ قول الحق سبحانه:وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ.. } [البقرة: 48]. يرى أنه أمام نفسين: النفس الأولى هي التي تقدِّم الشفاعة، والنفس الثانية هي المشفوع لها. والشفاعة هنا لا تُقبل من النفس الأولى الشافعة، وكذلك لا يُقبل العدل. وفي الآية الثانية لا تُقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها، فهي تحاول أن تقدم العدل أولاً، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع.

السابقالتالي
2