الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }

أي: أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اسألهم هذا السؤال، ولا يسأل هذا السؤال إلا مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الأجوبة، فلن يجد جواباً غير ما عند السائل. ومثال ذلك من حياتنا - والله المثل الأعلى - إن جاء لك من يقول: أبي يهملني، فتمسك به، وتسأله: من جاء لك بهذه الملابس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلِّمك؟ سيقول لك: أبي. وأنت لا تسأله هذا السؤال إلا وأنت واثق أنه لو أدار كل الأجوبة فلن يجد جواباً إلا الذي تتوقعه منه، فليس عنده إجابة أخرى لأنك لو كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة. والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الآية الكريمة: { قُلْ } كما أنزل عليه مثيلاتها مما بُدىء بقوله سبحانه: { قُلْ } مثل قوله سبحانه:قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الصمد: 1]. وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائماً للخَلْق، ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق، فحين تقول لابنك: " اذهب إلى عمِّك، وقُلْ له كذا ". فالابن يذهب إلى العمِّ ويقول له منطوق رسالة الأب، دون أن يقول له: " قُلْ " ، أما خطاب الحق سبحانه للخلق، فقد شاء سبحانه أن يبلِّغنا به رسوله الله صلى الله عليه وسلم كما نزل { قُلْ } فالرسول صلى الله عليه وسلم أمين في البلاغ عن الله تعالى، لا يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلِّغها للبشر، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي أمره، فهو يبلغ ما أمِرَ، حتى لا يحرم آذان خلق الله تعالى من كل لفظ صدر عن الله سبحانه. وكذلك أمر الحق - سبحانه - هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: { مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ.. } [يونس: 31]. ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به، والانتفاع الأول مُقوِّم حياة، والثاني تَرَفٌ أو كماليات حياة، والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء، ونبات يخرج من الأرض. وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والإجابة معروفة مقدَّماً، فلم يَقُلْ لرسوله صلى الله عليه وسلم: " أجِب أنت " بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم. وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر: { أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ.. } [يونس: 31]. والسمع والبصر هما السيدان لملَكَات الإدراك لأن إدراك المعلومات له وسائل متعددة، إنْ أردتَ أنْ تُدرك رائحة فبأنفك، وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة فبلمسك وببشرتك، وإنْ أردتَ أن تدرك مذاق شيء فبلسانك، وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلام وعمدتها اللسان، وإنْ أردتَ أن تسمع فبأذنك. وكذلك تتجلَّى لك المرائي بعينيك، ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس لتُكوِّن أشياء نسميها الخميرة، توجد منها القضية العقلية الأخيرة، فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلاً جذاباً، لكن ما إن يلمسها حتى تلسعه فلا يقرب منها أبداً من بعد ذلك لأنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة، واستقر هذا لديه يقيناً.

السابقالتالي
2 3 4 5