الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }

وقول الحق سبحانه: { هُنَالِكَ } يعني: في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظَرْفَا الحدث لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان. وجاءت { هُنَالِكَ } أيضاً في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه:هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ.. } [آل عمران: 38]. أي: في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم - رضي الله عنها - قولةً أدَّت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق - سبحانه وتعالى - أن تعلِّمه هي. يقول سبحانه:كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً.. } [آل عمران: 37]. والرزق ما به انتفع، وكان زكريا - عليه السلام - يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجىء بوجود رزق لم يَأت هو به بدليل أنه قال:أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران: 37]. وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به. وهذه هي قضية " من أين لك هذا "؟، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحداً يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يُكتشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله، ولو أن كافله أصرَّ على معرفة من أين تأتي مصادر دخله لَحَمى المجتمع من الفساد. وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه:أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا.. } [آل عمران: 37]. قالت مريم:هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ.. } [آل عمران: 37]. ثم تعلَّل الجواب:إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.. } [آل عمران: 37]. قالت ذلك، لأنه وجد عندها أشياء لا توجد في مثل هذا الوقت من السنة، فعجَبُ سيدنا زكريا عليه السلام - إذن - كان من أمرين اثنين: شيء لم يأت هو به، وشيء مخالف للفترة التي هو فيها، كأنْ وجد عندها عنباً في زمن غير أوانه، أو وجد برتقالاً في غير أوانه، وسؤاله كان دليل يقظة الكفيل، وإجابتها كانت قضية إيمانية عقديةإِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.. } [آل عمران: 37]. وما دام { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } - سبحانه وتعالى - ما طرح حسابك أنت للأشياء في ضوء هذه القضية. ولكن هل غفل سيدنا زكريا - عليه السلام - عن قضية الإيمان بأن الله تعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؟ فنقول: لا، لم يغفل عنها، ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ فجاءت بها قولة السيدة مريم لتذكر بهذه القضية، وهنا تذكَّر زكريا نفسه، كرجل بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر، وما دام الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فليس من الضروري أن يكون شاباً أو تكون زوجته صغيرة لينجب، فجاء الحق معبراً عن خاطر زكريا في قوله:

السابقالتالي
2 3