الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وما دام الحق سبحانه قد جاء بمن دعاهم إلى دار السلام وأعطاهم الجنة جزاء للعمل الحسن، فذكر مقابل الشيء يجعله ألصق بالذّهن، والحق سبحانه هو القائل:فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً.. } [التوبة: 82]. وأيضاً من أمثلة المقابلة في القرآن قوله الحق:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14]. إذن: فمجيء المقابل للشيء إنما يرسِّخه في الذهن ولأن الحق سبحانه قد تكلم عن الدعوة إلى دار السلام، ومن دخل هذه الدعوة فله الجنة خالداً فيها، لا يرهق وجهه قتر ولا ذلة، كان لا بد أن يأتي بالمقابل، وأن يبشِّع رفض الدعوة لدار السلام، ويحسِّن الأمر عند من يقبلون الدعوة. ولا بد - إذن - أن يفرح المؤمن لأنه لن يكون من أهل النار، ولا بد أيضاً أن يخرج بعض من الذين ضلّوا عن الغفلة ليهربوا من مصير النار، ويتحولوا إلى الإيمان. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ.. } [يونس: 27]. ونحن نعلم أن الكسب إنما يكون في الأمر الفطري ويناسب الطاعات لأن الطاعة أمر مناسب وملائم للفطرة، فلا أحد يستحي أن يصلِّي، أو يتصدق، أو يصوم، أو يحج، لكن من الناس من يستحي أن يُعرف عنه أنه كاذب، أو مُرَابٍ، أو شارب خمر. والإنسان حين يرتكب السيئة يمر بتفاعلات متضاربة فالذي يسرق من دولاب والده وهو نائم، تجده يتسلل على أطراف أصابعه ويكون حذراً من أن يرتطم بشيء يفضح أمره، كذلك الذي ينظر إلى محارم غيره. كل هذا يدل على أن ارتكاب الشيء المخالف فيه افتعال، أي: يحتاج إلى اكتساب، ولكن الكارثة أن يستمر الإنسان في ارتكاب المعاصي حتى تصير دُرْبة، ويسهل اعتياده عليها فيمارس المعصية باحتراف فتتحول من اكتساب إلى كسب. أو أن يصل الفاسق من هؤلاء إلى مرتبة من الاستقرار على الانحلال فيروي ما يفعله من معاصٍ وآثام بفخر، كأن يقول: " لقد سهرنا بالأمس سهرة تخلب العقل، وفعلنا كذا وكذا " ، ويروى ذلك، وكأنه قد كسب تلك السهرة بما فيها من معاص وآثام. ومن رحمة الله سبحانه بالخلق أنه يجازي مرتكب السيئة بسيئة مثلها، فيقول سبحانه: { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } ، وتتجلى أيضاً رحمة الحق سبحانه وتعالى حين يعطي من لا يرتكب السيئة مرتبة فيصير ضمن من قال عنهم الحق سبحانه: { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } لكن الذين لم يهتدوا منهم من يقول الحق سبحانه عنهم: { مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي: لن يجيرهم أحد عند الله تعالى، ولن يقول أحد لله سبحانه: لا تعذِّبْهم. أو أن لا عاصم لهم بمعنى: أن الله تعالى لن يأمر بعد ذلك بألاّ يُعذَّبوا.

السابقالتالي
2