الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي " إذا " الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن يستردوا أنفاسهم، أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء، وتحقق نتيجة الضراعة، لا، بل بغوا - على الفور - في الأرض { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }. والبغي: هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد لأن الإنسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلاحه، يقال: " بغى عليه " ، فإن حفرت طريقاً مُمهّداً فهذا إفساد، وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشرب منه الناس فهذا إفساد وبغي، وأي شيء قائم على الصلاح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده فهذا بغي. والبغي: أعلى مراتب الظلم لأن الحق سبحانه هو القائل:إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ.. } [القصص: 76]. ويعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة البغي الممثَّلة في الاعتداء بالفساد على الأمر الصالح، فيقول صلى الله عليه وسلم: " أسرع الخير ثواباً: البِرّ وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة: البغي وقطيعة الرحم ". والحق سبحانه لا يؤخر عقاب البغي وقطيعة الرحم إلى الآخرة، بل يعاقب عليهما في الدنيا حتى يتوازن المجتمع لأنك إن رأيت ظالماً يحيا في رضاً ورخاء ثم يموت بخير، فكل مَنْ يراه ويعلم ظلمه ولم يجد له عقاباً في الدنيا، سوف يستشري في الظلم. ولذلك تجد أن عقاب الله تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة، وحين يرى الناس ذلك يتعظون فلا يظلمون، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع. وإلا فلو ترك الله سبحانه الأمر لجزاء الآخرة لشقي المجتمع بمن لا يؤمنون بالآخرة ويحترفون البغي ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا، ثم يكون لهم موقعهم من النار في الآخرة. ويقول صلى الله عليه وسلم محذراً: " لا تَبْغِ، ولا تَكُنْ باغياً ". فالباغي إنما يصنع خللاً في توازن المجتمع. والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير، ليستمتع بناتج من غير كدِّه وعمله، ويتحوّل إلى إنسان يحترف فرض الإتاوات على الناس، ويكسل عن أي عمل غير ذلك. وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والأحياء، حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم الجسدية، وقد تحولوا إلى فتوات يستأجرهم البعض لإيذاء الآخرين، والواحد من هؤلاء إنما احترف الأكل من غير بذل جهد في عمل شريف. والبغي - إذن - هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة لأن من يقع عليهم ظلم البغي، إنما يزهدون في الكَدِّ والعمل الشريف الطاهر. وإذا ما زهد الناس في الكَدِّ والعمل الشريف تعطلت حركة الحياة، وتعطلت مصالح البشر، بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل ولذلك قال الحق سبحانه: { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ.

السابقالتالي
2