الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

وهنا يبلِّغ محمدٌ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله: لقد عشت طوال عمري معكم، ولم تكن لي قوة بلاغة أو قوة شعر، أو قوة أدب. فمن له موهبة لا يكتمها إلى أن يبلغ الأربعين، ورأيتم أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلِّم، بل عندما اتهمتموه وقلتم:إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. } [النحل: 103]. وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى:لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103]. ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية، ولم يقرأ مؤلَّفَات أحد. فمن أين جاء القرآن إذن؟ لقد جاء من الله سبحانه، وعليكم أن تعقلوا ذلك، ولا داعي للاتهام بأن القرآن من عند محمد لأنكم لم تجرّبوه خطيباً أو شاعراً، بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن نزلت عليه الرسالة، هو بلاغ من عند الله. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه، فالعادة أن يسرق شاعر ـ مثلاً ـ قصيدة من شاعر آخر، أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلِّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده، بل هو مجرد مبلِّغ له، وكان يجب أن يتعقَّلوا تلك القضية بمقدِّماتها ونتائجها فلا يلقوا لأفكارهم العنان ليكذبوا ويعاندوا، فالأمر بسيط جداً. يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16]. إذن: فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله رسولاً من أنفسهم، فإن قلت:إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ.. } [آل عمران: 164]. أي: أنه صلى الله عليه وسلم من جنس الناس، لا من جنس الملائكة، أو { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: من أمة العرب، لا من أمة العَجَم، أو { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: من قبيلتهم التي يكذِّب أصحابُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. إذن: فحياته صلى الله عليه وسلم معروفة معلومة لكم، لم يَغِبْ عنكم فترة لتقولوا بُعِثَ بعثةً ليتعلَّم علماً من مكان آخر، ولم يجلس إلى معلِّم عندكم ولا إلى معلِّم خارجكم، ولم يَتْلُ كتاباً، فإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن تأخذوا من هذا مقدِّمة وتقولوا: فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟ أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات لا تنشأ في الأربعينات، ولكن مخايل العبقرية إنما تنشأ في نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث، فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم، وأنتم أمّة البلاغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم، وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ كان يجب أن تقولوا: لم نعرف عنه أنه يعلم شيئاً من هذا، فإذا حَلّ لكم اللغز وأوضح لكم: أن القرآن ليس من عندي كان يجب أن تصدقوه لأنه صلى الله عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه سبحانه.

السابقالتالي
2 3