الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ }

فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنكم لن تنالوا منه شيئاً، وسيتم الله نوره، فلستم بدعاً عن سابق الخلق. و { ٱلْقُرُونَ }: جمع قرن، والقرن من المقارنة، وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم " قرنا ". وقد يكون القرن في الزمنية، ولذلك حسبوا القرن مائة سنة، والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة يسمونهم قرناً. أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم، مهما طال بهم الأمد. وقوله الحق: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فهل لو أمهلهم الله - تعالى - كانوا سيؤمنون؟ لا، فلله علمٌ أزليٌّ، يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه اضطراراً أو اختياراً. والمثل من حياتنا وأعرافنا - ولله المثل الأعلى - نجد الإنسان حين يريد بناء بيت، فالأمر يختلف حسب مقدرته الفقير مثلاً يطلب بناء حجرتين فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين، وإذا كان الإنسان متوسط الحال فهو يتجه إلى مهندس يصمِّم له بناء على قدر سعته، وإن كان الإنسان ثرياً فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتاً حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى، ويصمم المهندس نموذجاً للبناء قبل أن يبدأ فيه، وتظهر فيه كل التفاصيل، حتى ألوان النوافذ والأبواب والحجرات. والعالم قبل أن يخلقه الله سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلاً عنده سبحانه، وهذا هو مطلق القدرة من الحق تعالى، ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلاً حتى ولو كان هناك اختيار للمخلوق الكافر، فالله سبحانه يعلمه. وقد صحَّ أن القلم جفَّ حتى في الأمور الاختيارية، وسبحانه يعلم ما تجري به الأمور القهرية وما يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم، أما في الأمور الاختيارية فقد أعطى لخلقه الاختيار. وقد علم ما سوف يفعلونه غيباً فصمم المسألة على وفق ما علم. وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك، لا، فقد علم أنك ستختار. وهكذا علم الحق سبحانه من سيظلم نفسه - أزلاً - وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم لا يؤمنون. { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره، والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض، لكن أعلى درجات الظلم حين يظلم أحدٌ حقَّ الإله الأعلى في أن يكون إلهاً واحداً، وأن ينقل ذلك لغيره. تلك هي قمة الظلم لذلك قال سبحانه:إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]. وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الأولى، أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقاً لقوله تعالى:وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [يونس: 44]. والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد لأن الإنسان ملكاته متعددة، ومن هذه الملكات ملكة الإيمان الفطري، وملكة النفع العاجل الذاتي.

السابقالتالي
2