الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }

وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم:يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ.. } [يونس: 108]. فهذا يعني البلاغ بمنهج الله - تعالى - النظري، ولا بُدَّ أن يثق الناس في المنهج، بأن يكون الرسول هو أول المنفذين للمنهج، لأنه - معاذ الله - لو غشَّ الناس جميعاً لما غشَّ نفسه. إذن: فبعد البلاغ عن الحق سبحانه، وتعريف الناس بأن الهداية لا يعود نفعها على الحق، بل هي للإنسان، فيملك نفسه ويملك زمام حياته، فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأن الضلال لا يعود إلا باستعلاء الإنسان على نفسه ليركبها إلى موارد التهلكة. والرسول صلى الله عليه وسلم ليس وكيلاً عنكم، يأتي لكم بالخير حين لا تعملون خيراً، ولا يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر. ولذلك كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو النموذج والأسوة:لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21]. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ.. } [يونس: 109]. أي: عليك أن تكون الأسوة، وحين تتَّبع ما يوُحَى إليك ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد، ولا يرضيهم أن يوجد الإصلاح، فَوطِّن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك، وأن تصبر. ومجيء الأمر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة، وعليك أن تصبر وتعطي النموذج لغيرك، والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في اتباع المنهج لما صبرت عليه حتى يأتي حكم الله {.. وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [يونس: 109]. وليس هناك أعدل ولا أحكم من الله سبحانه وتعالى. وهذه السورة التي تُخْتَم بهذه الآية الكريمة، تعرضت لقضية الإيمان بالله، قمة في عقيدة لإله واحد يجب أن نأخذ البلاغ منه سبحانه لأنه الرب الذي خلق من عَدَم، وأمدَّ من عُدْم، ولم يكلِّفنا إلا بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ حتى يتأكد أن المكلَّف يستحق أن يُكلَّف بعد أن انتفع بخيرات الوجود كله، وتثبَّت من صدق الربوبية. ومعنى الربوبية هو التربية، وأن يتولى المربِّي المربَّى إلى أن يبلغ حَدَّ الكمال المرجوّ منه. وقد صدقتْ هذه القضية في الكون. إذن: نستمع إلى الرب - سبحانه وتعالى - الذي خلق، حين يُبِّين لنا مهمتنا في الحياة بمنهج تستقيم به حركة الحياة، ويستقيم أمر الإنسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة. ومن المحال أن يخلق الله - سبحانه وتعالى - المخلوق ثم يُضيِّعه، بل لا بد أن يضع له قانون صيانة نفسه لأن كل صنعة إنما يضع قانونها ويحدد الغاية لها مَنْ صنعها، فإذا ما خالفنا ذلك نكون قد أحَلْنا وغيَّرنا الأمور، وأدخلنا العالم في متاهات، وصار لكل امرىء غاية، ولكل امرىء منهج، ولكل عقل فكر، ولَصار الكون متضارباً لأن الأهواء ستتضارب، فتضعف قوة الأفراد لأن الصراع بين الأنداد يُضعِف قوة الفرد عن معالجة الأمر الذي يجب أن يعالجه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9