الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

دعواهم: أي دعاؤهم. وهل الآخرة دار تكليف حتى يواصلوا عبادة الله؟ لا، ولكنها عبادة الالتذاذ، وهم كُلَّما رأوا شيئاً يقولون: لقد أكلنا ذلك من قبل، ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الأرض كان يشبه تلك الثمار، لكنه ليس مثلها.قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً... } [البقرة: 25]. أو يقولون: { سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ } اعترافاً بالنعمة، وأنت حين ترى شيئاً يعجبك تقول: سبحانك يا رب. وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول: سبحان الله، وتُفاجَأ بأشياء لم تكن في الحسبان - من فرط جمالها فتقول: الحمد لله. إذن: فأنت تستقبل النعمة " بسبحان الله " ، وينتهي من النعمة " بالحمد لله ". ولذلك يقول الحق سبحانه: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } والذي يجعل للحياة الدنيا معنى، ويجعل لها طعماً ويجعل لها استقراراً، أن يكون الإنسان في سلام، ومعنى السلام: الاطمئنان والرضا فلا مُهيِّجات، ولا مُعكِّرات، ولا يأتي ذلك إلا بعدم اصطدام في ملكات النفس فيتحقق سلام الإنسان مع نفسه، وسلام الإنسان مع أهله، وهذا هو المحيط الثاني، وسلام الإنسان مع قومه، وسلام الإنسان مع العالم كله، كل ذلك اسمه سلام، لا مُنغِّص، لا من نفسه، ولا من أهله، ولا من قومه، ولا من العالم. وكلما اتسعت رقعة السلام زاد الإحساس الإنسان بالاطمئنان. وحين يقول الحق سبحانه: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ، فالسلام وارد في أشياء متعددة، والحق سبحانه يقول:إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 55-58]. وهذا هو السلام الذي له معنى فهو سلام من الله. ولم يقل سبحانه: " سلام يورثك اطمئناناً ونفساً راضية " فقط، بل هو سلام بالقول من الله، وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى مباشرة. وهناك فرق بين أن يشيع الله فيك السلام وبين أن يحييك كلامه بالسلام. وهذا هو السبب في قوله:سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]. وهذا سلام الله، ثم من بعده هذه المنزلة يأتي سلام الملائكة:وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم... } [الرعد: 23-24]. إذن: فقول الحق هنا: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } نجد فيه كلمة السلام رمز الرضا والاستقرار في الجنة فالسلام هو أول الأحاسيس التي تحبها في نفسك، ولو كانت الناس كلها ضدك. لكنك ساعة تستقر، فأنت تسائل نفسك: ماذا فعلت ليكون البعضُ ضدي؟ وحين تجيب نفسك: " إنني لم أفعل إلا الخير " فأنت تحس السلام في نفسك، وإذا ما رحَّب الآخرون بما تفعل، فالحياة تسير، بلا ضدّ ولا حقد، وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف قام واحد من الصحابة، وذهب إلى الرجل ليعلم ماذا يصنع، وسأله: ماذا تفعل حتى يبشّرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ فوجد سلوك الرجل مستقيماً ومتبعاً للمنهج دون زيادة، فسأله الصحابي: لماذا - إذن - بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ قال الرجل: والله إني لأصلّي كما تصلّون، وأصوم كما تصومون، وأزكّي كما تزكون، ولكني أبيت وما في قلبي غلٌّ لأحد.

السابقالتالي
2