الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وقوله - تعالى - { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً... } جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ. والكاف فى قوله { كَٱلَّذِينَ } للتشبيه، وهى فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة فى الانحراف عن الحق، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } فى أبدانهم، وكانوا " أكثر " منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً }. وقوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق مشتق من الخلق بمعنى التقدير. وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه. أى كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم فى هذه الحياة الدنيا، استمتاع الجاحدين الفاسقين. والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب فى قوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ } للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم، قد استعملوها فى غير ما خلقت له، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة، وملذاتهم الدنيئة. وقوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر. أى فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا، وشهواتها الباطلة، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم فى ذلك. وقوله { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } معطوف على ما قبله. أى وخضتم - أيها المنافقون - فى حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى، كالخوض الذى خاضه السابقون من الأمم المهلكة. قال الآلوسى قوله " وخضتم " أى دخلتم فى الباطل { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ }. أى كالذين فحذفت نونه تخفيفاً، كما فى قول الشاعر
إن الذى حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد   
ويجوز أن يكون " الذى " صفة لمفرد اللفظ، مجموع المعنى، كالفوج والفريق، فلوحظ فى الصفة اللفظ. وفى الضمير المعنى، أو هو صفة لمصدر محذوف، أى كالخوض الذى خاضوه، ورجح بعدم التكلف فيه. وقال صاحب الكشاف فإن قلت أى فائدة فى قوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } وقوله { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } عن أن يقال وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا؟ قلت فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر فى العاقبة، وطلب الفلاح فى الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله.

السابقالتالي
2 3