الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ } * { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ }

قال الجمل وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، منهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيرونهم بالشرك. وجعل على بن أبى طالب يوبخ العباس بسب قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم. فقال العباس ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له وهل لكم محاسن؟ قال نعم. ونحن أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة - أى نخدمها -، ونسقى الحجيج، ونفك العانى - أى الأسير - فنزلت هذه الأية. وقال صاحب المنار والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذى كان يقوله ويفخر به العباس وغيره من كبراء المشركين، لا أنها نزلت عندما قال ذلك القول لأجل الرد عليه فى أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة، بل نزلت فى ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم. وقوله { يَعْمُرُواْ } من العمارة التى هى نقيض الخراب. يقال عمر فلان أرضه يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والاصلاح والزراعة. والمراد بعمارة المساجد، هنا ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذى بنيت من أجله. وقوله { مَسَاجِدَ الله } قرأ أبو عمر وابن كثير { مسجد الله } بالإِفراد، فيكون المراد به المسجد الحرام لأنه أشرف المساجد فى الأرض، ولأنه قلبه المساجد كلها.. فلا يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه. وقرأ الجمهور { مَسَاجِدَ الله } بالجمع، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف فى سياق النفى فيعم سائر المساجد، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أولياً، لأن تعميره مناط افتخارهم، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد فى النفى، لأن نفى الجمع يدل على النفى عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، كما لو قلت فلان لا يقرأ كتب الله، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. قوله { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } حال من الواو فى قوله { يَعْمُرُواْ }. وفائدة المجئ بهذه الجملة الأشعار بأن كفرهم كفر صريح، وأنهم يعترفون به اعترافاً لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره. والمعنى لا ينبغى ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التى بنيت لعبادته وحده - سبحانه. وذلك لأن هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها السنتهم، وأيدتها أعمالهم. فهم لا ينطقون بكلمة التوحيد، وإنما ينطقون بالكفر والاشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين، وإنما يعملون الأعمال القبيحة التى تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام عقب الطواف بالكعبة. قال الفخر الرازى وذكروا فى تفسير هذه الشهادة وجوها الأول - وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر فى نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.

السابقالتالي
2