الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

التضرع تفعل من الضراعة وهى الذلة والاستكانة. يقال ضرع فلان ضراعة أى خشع وذل وخضع. ويقال تضرع، أى أظهر الضراعة والخضوع. وتضرعا حال من الضمير فى ادعوا. الخفية بضم الخاء وكسرها - مصدر خفى كمرض بمعنى اختفى أى استتر وتوارى ولم يجهر بدعائه. والمعنى سلوا ربكم - أيها الناس - حوائجكم بتذلل واستكانة وإسرار واستتار فإنه - سبحانه - يسمع الدعاء، ويجيب المضطر، ويكشف السوء، وهو القادر على إيصالها إليكم، وغيره عن ذلك عاجز. وإنما أمر الله عباده بالإِكثار من الدعاء فى ضراعة وإسرار، لأن الدعاء ما هو إلا اتجاه إلى الله بقلب سليم، واستعانة به بإخلاص ويقين، لكى يدفع المكروه، ويمنح الخير، ويعين على نوائب الدهر، ولا شك أن الإِنسان فى هذه الحالة يكون فى أسمى درجات الصفاء الروحى، والنقاء النفسى، ويكون كذلك مؤدياً لأشرف ألوان العبادة والخضوع لله الواحد القهار، معترفا لنفسه بالعجز والنقص. ولربه بالقدرة والكمال. هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية من آداب الدعاء الخشوع والإِسرار واستدلوا على ذلك بأحاديث وآثار متعددة منها ما جاء فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى " قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم " أيها الناس، اربعوا على أنفسكم - أى ارفقوا بها - وأقصروا من الصياح - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً. إنه معكم - إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جده ". وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة، عن الحسن قال إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة فى بيته وعنده الزور - أى الزوار - وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يعملوه فى السر فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون يجهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله - تعالى - يقول { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضى فعله وهو زكريا فقالذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } وقال ابن المنير " وحسبك فى تعين الإِسرار فى الدعاء اقترانه بالتضرع فى الآية، فالاخلال بالضراعة إلى الله إخلال بالدعاء. وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى. فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه. وترى كثيراً من أهل زمانك يعمدون إلى الصراخ والصياح فى الدعاء خصوصا فى الجوامع حتى يعظم اللفظ ويشتد، وتستك المسامع وتنسد، ويهتز الداعى بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعيتن رفع الصوت فى الدعاء وفى المسجد، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار.

السابقالتالي
2 3