الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } * { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ }

قال صاحب المنار " هذا مثل ضربه الله - تعالى - للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات، لأن العلم الذى لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التى تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض، أو كان فى التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر
خلقوا، وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا، وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا   
فحاصل معنى المثل أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذى حرم ثمرة الانتفاع من علمه، لأن كلا منهما لم ينظر فى الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص ". وقوله - تعالى - { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } أى أقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الانسان الذى آتيناه بأن علمناه إياها، وفهمناه مراميها، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، أو الحية من جلدها. والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات. وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شىء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفى التعبير به مالا يخفى من المبالغة وقوله { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } أى فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإِنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين فى الغواية، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين وفى التعبير بقوله { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ } مبالغة فى ذم هذا الإِنسان وتحقيره، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه، فهو على حد قول الشاعر
وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده   
قال الجمل أتبعه فيه وجهان أحدهما أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو مبالغة فى حقه حيث جعل إماما للشيطان. وثانيهما أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع، والمفعول الثانى محذوف تقديره فأتبعه الشيطان خطواته، أى جعله تابعا لها وقوله { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه. والضمير فى قوله { لَرَفَعْنَاهُ } يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول { ٱلَّذِيۤ } والضمير فى قوله { بِهَا } يعود إلى الآيات. ومفعول المشيئة محذوف. أى ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا لا يستعصى على قدرتنا شىء، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم فى ضلالهم يعمهون.

السابقالتالي
2 3