الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } * { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } * { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } * { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } * { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } * { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }

الفاء فى قوله { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ... } لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والفعل { ذرنى } من الأفعال التى يأتى منها الأمر بالمضارع، ولم يسمع لها ماض، وهو بمعنى أترك. يقال ذَرْهُ يفعل كذا، أى اتركه. ومنه قوله - تعالى -ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } والمراد بالحديث { بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ... } ما أوحاه - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم، ومن توجيهات حكيمة، لكى يبلغها للناس. والاستدراج استنزال الشئ من درجة إلى أخرى، والانتقال به من حالة إلى أخرى، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا التمهل فى إنزال العقوبة. والإِملاء الإِمداد فى الزمن، والإِمهال والتأخير، مأخوذ من الملاوة والملوة، وهى الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان الليل والنهار، والمراد به هنا إمدادهم بالكثير من النعم. يقال أملى فلان لبعيره، إذا أرخى له فى الزمام، ووسع له فى القيد، ليتسع المرعى. والكيد كالمكر، وهو التدبير الذى يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع الممكور به، فلا يفطن لما يراد به، حتى يقع عليه ما يسوؤه. وإضافة الكيد إليه - تعالى - يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه، وكإمدادهم بالنعم. ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه. والمعنى إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين، كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - فكِلْ أمرهم إلىَّ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك، ولا تشغل بالك بهم. فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، بأن أسوق لهم النعم، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج، ثم إنى أمد لهم فى أسباب الحياة الرغدة، ليزدادوا إثما، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا لون من ألوان كيدى الشديد القوى، الذى لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء.. وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ". وقال الحسن البصرى كم من مستدرج بالإِحسان، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. قال الآلوسى وقوله { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ... } استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا. وقوله { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أى من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم.

السابقالتالي
2 3 4 5