الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }

المحاجة المجادلة والمغالبة فى إقامة الحجة، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى المقصد المستقيم - كما قال الراغب - وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين فى إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه. فمعنى { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } أى جادلوه وخاصموه أو شرعوا فى مغالبته فى أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة فى حضيض التقليد، وأخرى بالتهديد والتخويف، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له عندما نهاهم عن عبادة الأصناموَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } وقد رد عليهم إبراهيم رداً قوياً جريئاً فقال لهم { أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أى أتجادلوننى فى شأنه - تعالى - وفى أدلة وحدانيته، والحال أنه - سبحانه - قد هدانى إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة. والاستفهام للانكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم. وجملة { وَقَدْ هَدَانِ } حال مؤكدة للانكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هدانى الله إلى الطريق المستقيم، وجعلنى من المبغضين للأصنام المحتقرين لها. ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنمهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هودإِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح. وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } استثناء مما قبله أى لا أخاف معبوداتكم فى جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربى شيئاً من المكروه يصيبنى من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها، وعلى هذا التفسير الذى ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا. ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربى خوفى مما أشركتم به. وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم - عليه السلام - مع ربه، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإِيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه. وقوله { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أى أن علم ربى وسع كل شىء وأحاط به، فلا يبعد أن يكون فى علمه إنزال ما يخفينى من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب. وهذه الجملة الكريمة مستأنفة بيانيا فكأن قومه قد قالوا كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده.

السابقالتالي
2 3 4