الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } * { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } * { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }

قوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } أى ينيمكم فيه. والتوفى أخذ الشىء وافياً، أى تاما كاملا. والتوفى يطلق حقيقة على الإِماتة، وإطلاقه على النوم - كما هنا - مجاز لشبه النوم بالموت فى انقطاع الإِدراك والعمل والإِحساس قال - تعالى -ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } فهذه الآية صريحة فى أن التوفى أعم من الموت، فقد صرحت بأن الأنفس التى تتوفى فى منامها غير ميتة، فهناك وفاتان وفاة كبرى وتكون بالموت، ووفاة صغرة وتكون بالنوم. والمعنى وهو - سبحانه - الذى يتوفى أنفسكم فى حالة نومكم بالليل، دون غيره لأن غيره لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشورا. { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } أى ما كسبتم وعملتهم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد الحى بشىء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإِنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان. وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا، وأن يكون الكسب والعمل نهاراً، قال - تعالى-وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } أى ثم إن بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه فى النهار، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى فى علم الله - تعالى -، والمقدر له فى هذه الدنيا، فقد جعل - سبحانه - لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها. وجملة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } معطوفة على { يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر. { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم فى هذه الدنيا، فيحاسبكم على أعمالكم التى اكتسبتموها فيها، إن خيراً فخير وإن شرا فشر. فالآية الكريمة تسوق للناس مظهراً من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث والحساب يوم القيامة، لأن النشأة الثانية - كما يقول القرطبى - منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم فى أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى. هذا، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب فى الآية للمؤمنين والكافرين، ولكن الزمخشرى خالف فى ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } الخطاب للكفرة، أى أنتم منسدحون الليل كله كالجيف - أى مسطحون على القفا - { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } ما كسبتم من الآثام فيه { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } من القبور فى شأن ذلك الذى قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } وهو الأجل الذى سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم.

السابقالتالي
2 3 4