افتتحت سورة " الحشر " بالثناء على الله - تعالى - وبتنزيهه عن كل مالا يليق بذاته الجليلة، فقال - عز وجل - { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }. واصل التسبيح لغة الإِبعاد عن السوء. وشرعا تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله. والذى يتدبر القرآن الكريم، يجد أن الله - تعالى - قد ذكر فيه أن كل شىء فى هذا الكون يسبح بحمده - تعالى -، كما فى قوله{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } كما ذكر - سبحانه - أن الملائكة تسبح له، كما فى قوله{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ... } وكذلك الرعد، كما فى قوله{ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ... } وكذلك الجبال والطير قال - تعالى -{ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله - تعالى -{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... } أن الرأى الذى تطمئن إليه النفس، أن التسيبح حقيقى، ولكن بلغة لا يعملها إلا الله - تعالى -. والمعنى سبح لله - تعالى - ونزهه عن كل ما لا يليق به، جميع ما فى السماوات وجميع ما فى الأرض من كائنات ومخلوقات. وهو - عز وجل - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فى أقواله وأفعاله. وقد افتتحت بعض السور - كسورة الحديد والحشر والصف - بالفعل الماضى، لإِفادة الثبوت والتأكيد، وأن التسبيح قد تم فعلا. وافتتحت بعض السور، كسورة الجمع والتغابن - بالفعل المضارع " يسبح " لإِفادة تجدد هذا التسبيح لى كل وقت، وحدوثه فى كل لحظة. ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، حيث نصرهم على أعدائهم، فقال { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ... }. والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا يهود بنى النضير، وقصتهم معروفة فى كتب السنة والسيرة، وملخصها أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون فى ضواحى المدينة فذهب إليهم النبى - صلى الله عليه وسلم - ليستعين بهم فى دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ، فاستقبلوه استقبالا حسنا، وأظهروا له - صلى الله عليه وسلم - استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذى يجلس تحته محمد - صلى الله عليه وسلم - فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه. فتعهد واحد منهم بذلك، وقبل أن يتم فعله، نزل جبريل - عليه السلام - على النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير، ونزل قوله - تعالى -