الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } * { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } * { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } * { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } * { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } * { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }

والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } جنسه. وقوله { تُوَسْوِسُ } من الوسوسة وهو الصوت الخفى، والمراد به حديث الإِنسان مع نفسه. قال الشاعر
وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزرى بالأمل   
و { مَا } موصولة، والضمير عائد عليها والباء صلة، أى ونعلم الأمر الذى تحدثه نفسه به. ويصح أن تكون مصدرية، والضمير للإِنسان، والباء للتعدية، أى ونعلم وسوسة نفسه إياه. والمتدبر فى هذه الآية يرى أن افتتاحها يشير إلى مضمونها، لأن التعبير بخلقنا، يشعر بالعلم التام بأحوال المخلوق، إذ خالق الشئ وصانعه أدرى بتركيب جزئياته. أى والله لقد خلقنا بقدرتنا هذا الإِنسان. ونعلم علما تاما شاملا ما تحدثه به نفسه من أفكار وخواطر.. وقوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } تقرير وتوكيد لما قبله. وحبل الوريد عرق فى باطن العنق يسرى فيه الدم، والإِضافة بيانية. أى حبل هو الوريد. أى ونحن بسبب علمنا التام بأحواله كلها، أقرب إليه من أقرب شئ لديه، وهو عرق الوريد الذى فى باطن عنقه، أو أقرب إليه من دمائه التى تسرى فى عروقه. فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن علم الله - تعالى - بأحوال الإِنسان، أقرب إلى هذا الإِنسان، من أعضائه ومن دمائه التى تسرى فى تلك الأعضاء. والمقصود من القرب القرب عن طريق العلم، لا القرب فى المكان لاستحالة ذلك عليه - تعالى -. قال القرطبى قوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } يعنى الناس. { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أى ما يختلج فى سره وقلبه وضميره، وفى هذا زجر عن المعاصى التى استخفى بها.. { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } هو حبل العاتق، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال.. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.. وهذا تمثيل لشدة القرب. أى ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذى هو من نفسه.. وهذا القرب، هو قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإِنسان يحجب البعضُ البعضَ، ولا يحجب علم الله - تعالى - شئ. وقال القشيرى فى هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم. وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه. وسار عليه من قبلنا جمهور المفسرين يكون الضمير { نَحْنُ } يعود إلى الله - تعالى -، وجئ بهذا الضمير بلفظ { نَحْنُ } على سبيل التعظيم. ويرى الإِمام ابن كثير أن الضمير هنا يعود إلى الملائكة، فقد قال - رحمه الله - وقوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } يعنى ملائكته - تعالى - أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده إليه. ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإِجماع - تعالى الله وتقدس - ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } كما قال فى المحتضر { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يعنى ملائكته.

السابقالتالي
2 3