الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

قال ابن عباس قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق. فأنزل الله هذه الآية. وقد أضاف - سبحانه - المقالة إلى اليهود جميعا، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به. وقال عكرمة إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه. فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم قل ما لهم، فقالوا ما قالوا. وقيل إنهم لما رأوا النبى صلى الله عليه وسلم فى فقر وقلة مال وسمعوامَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } قالوا إن إله محمد بخيل. وقوله - تعالى - حكاية عنهم { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه - سبحانه - وسوء أدبهم معه، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التى لا تحصى. وأرادوا بقولهم { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أنه - سبحانه - بخيل عليهم، ممسك خيره عنهم، مانع فضله عن أن يصل إليهم، حابس عطاءه عن الاتساع لهم، كالمغلولة يده الذى لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف. وأصل الغل - كما يقول الراغب - تدرع الشىء وتوسطه، ومنه الغلل للماء الجارى بين الشجر. والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال. وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم، لأن الله - تعالى - منزه عن مشابهة الحوادث. وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء. والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال، لا سيما فى دفع المال وإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد، مبسوط الكف، وقيل للبخيل مقبوض اليد، كز الكف. وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود " ومنه قوله - تعالى -وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة، حتى إنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود. وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقول القائل
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده   
ويقال بسط اليأس كفيه فى صدرى، فجعلت لليأس الذى هو من المعانى لا من الأعيان كفين. وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف " غل اليد وبسطها مجاز " فقال والنكتة فى استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، وهى بسط اليد للجود وقبضها للبخل، ولا شىء أثبت من الصور الحسية فى الذهن، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدركان بالحس.

السابقالتالي
2 3 4