الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

قوله { وَقَفَّيْنَا } معطوف على قوله قبل ذلكأَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ } وأصل القفو اتباع الأثر يقال قفاه يقفوه أى اتبع أثره، والتقفية الاتباع، يقال قفيته بكذا أى اتبعته. وإنما سميت قافية الشعر قافية لأنها تتبع الوزن، والقفا مؤخر الرقبة. ويقال قفا أثره إذا سار وراءه واتبعه. قال صاحب الكشاف قفيته مثل عقبته، إذا أتبعته. ثم يقال قفيته وعقبته به، فتعديه إلى الثانى بزيادة الباء. فإن قلت فأين المفعول الأول فى الآية؟ قلت هو محذوف. والظرف الذى هو " على آثارهم " كالسّادمسّده، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه. والضمير فى قوله { عَلَىٰ آثَارِهِم } يعود على النبيين فى قولهيَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } وقوله { آثَارِهِم } جمع أثر وهو العلم الذى يظهر للحس. وآثار القوم ما أبقوا من أعمالهم. وقوله { عَلَىٰ آثَارِهِم } تأكيد لمدلول فعل " قفينا " وإيماء إلى سرعة التقفية. وقوله. { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى لما تقدمه، لأن ما بين يدى الإِنسان كأنه حاضر أمامه. والمعنى وأتبعنا على آثار أولئك النبيين الذين أسلموا وجوههم الله، وأخلصوا له العبادة والذين كانوا يحكمون بالتوراة - كموسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم - أتبعنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ناهجا نهجهم فى الخضوع والطاعة والإِخلاص لله رب العالمين ومصدقا للتوراه التى تقدمته، ومنفذا لأحكامها إلا ما جاء نسخه فى الإِنجيل منها. وفى التعبير بقوله { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم } إشارة إلى أن عيسى - عليه السلام - لم يكن بدعة من الرسل، وإنما هو واحد منهم، جاء على آثار من سبقوه، سالكا مسلكهم فى الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلى بمكارم الأخلاق. وفى التعبير بقوله { بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } إيذان بأنه محدث كجميع المحدثات، وأنه قد ولد من أمه كما يولد سائر البشر من أمهاتهم، وأنه لا نسب له إلا من جهتها، فليس له أب، وليس ابنا لله - تعالى -، وإنما هو عبد من عباد الله أوجده بقدرته، وأرسله - سبحانه - لدعوة الناس إلى توحيده وعبادته. وقوله { مصدقا } حال من عيسى - عليه السلام - قال بعض العلماء " ولو سايرنا الواقع عند النصارى فى هذه الأيام، لكان لذكر كلمة التصديق فى هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول، بل بالتنفيذ، لأن الإِنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة، وليس ثمة نص قاطع فى الأناجيل التى بين أيدينا يغاير ما جاء فى التوارة من أحكام تتعلق بالأسرة، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص. ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح - عليه السلام - تدل على العمل بأحكام التوراة، مثل قوله - عليه السلام - " ما جئت لأنقض الناموس " أى التوراة.

السابقالتالي
2 3 4