الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

قوله - تعالى - { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدى الأثيمة بالتحريف والتبديل. ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله - تعالى - هو الذى أنزلها لا غيره، وأنه - سبحانه - جعلها مشتملة على الهدى والنور. والمراد بالهدى، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التى تهدى الناس إلى طريق السعادة. والمراد بالنور ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة، والمواعظ الحكيمة، والأخلاق القويمة. والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى - عليه السلام - مشتملة على ما يهدى الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة. ثم بين - سبحانه - بعض الوظائف التى جعلها للتوراة فقال { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ }. والمراد بقوله { ٱلنَّبِيُّونَ } من بعثهم الله فى بنى إسرائيل من بعد موسى لإِقامة التوراة. وقوله الذين أسلموا صفة للنبيين. أى أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة. وعن الحسن والزهرى وقتادة يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم، وكان هذا حكم التوراة. وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له. وقال ابن الأنبارى هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى - فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } يعنى أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفة ". وقوله { لِلَّذِينَ هَادُواْ } أى رجعوا عن الكفر. والمراد بهم اليهود. واللام للتعليل. وقوله { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ } معطوف على { النبيون } وهو جمع ربانى. وهم - كما يقول ابن جرير - العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم. وقوله { الأحبار } معطوف أيضاً على { النبيون }. قال القرطبى ما ملخصه والأحبار قال ابن عباس هم الفقهاء. والحبر بالفتح والكسر - الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، فهم يحبرون العلم. أى يبينونه، وهو محبر فى صدورهم. والباء فى قوله { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } متعلقة بقوله { يَحْكُم }. وقوله { ٱسْتُحْفِظُواْ } من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم، إذ أن السين والتاء للطلب، والضمير فى { ٱسْتُحْفِظُواْ } يعود على النبيين والربانيين والأحبار. والمعنى إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق، وضياء لهم من ظلمات الباطل، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا له العبادة والطاعة، ويحكم أيضاً بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8