الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }

وقوله - تعالى - { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التى فيها شر ومضرة، ومن إعلان الأقوال أو الأفعال التى من ورائها خير ومنفعة. وقوله { نَّجْوَاهُمْ } أى مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه. والنجوى اسم مصدر بمعنى المسارة. يقال نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة. أى ساررته بكلام على انفراد. وأصله أن تعلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من من الأرض. أى فى مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله. وقيل أصله من النجاة، لأن الإِسرار بالشئ فيه معاونة على النجاة. وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما فى قوله - تعالى -نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } والضمير فى قوله { مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعود إلى الناس جميعا، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا. والمعروف - كما يقول الآلوسى - هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك. ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله - تعالى - { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }. والمعنى لا خير فى كثير من الكلام الذى يناجى فيه الناس، ويتحدثون به سرا، إلا فى نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله، وينفع بها المحتاج إليها، أو من غيره بالإِكثار من أعمال البر، أو القيام بالإِصلاح بين الناس المتخاصمين لكى يعودوا إلى ما كانوا عليه من الأفة والإِخاء والصفاء. قال الجمل وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }. فى هذا الاستثناء قولان أحدهما متصل. والثانى أنه منقطع. وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها المصدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجى أى التحدث. وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا. فعلى الأول يكون منقطعا، لأن من أمر ليس مناجاة، فكأنه قيل لكن من أمر بصدقة ففى نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا. وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ }. إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا فى لغة الحجازيين. أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا. وإما مجرور على البدل من كثير، أو من نجواهم، أو صفة لأحدهما. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجى المذموم ثلاث خصال هى جماع الخير، وذلك لأن الصدقة التى يخرجها الإِنسان تكون سببا فى تزكية ماله، وحسن ثوابه، ونشر المحبة والمودة بين الناس. والتعبير بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } يفيد الدعوة إليها، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضى ذلك.

السابقالتالي
2 3 4