الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }

افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل، ولا بقوم دون قوم، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم لأن تخصيص قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } بأهل مكة تخصيص بغير مخصص. والمراد بالنفس الواحدة هنا آدم - عليه السلام -. وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة. ومن فى قوله { مِنْهَا } للتبعيض. والضمير المؤنث " ها " يعود إلى النفس الواحدة. والمراد بقوله - تعالى - { زَوْجَهَا } حواء فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله - تعالى - { مِنْهَا }. قال الفخر الرازى ما ملخصه " المراد من هذا الزوج هو حواء. وفى كون حواء مخلوقة من آدم قولان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله - تعالى - آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه. واحتجوا عليه بقول النبى صلى الله عليه وسلم " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها " والقول الثانى وهو اختيار أبى مسلم الأصفهانى أن المراد من قوله { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أى من جنسها. وهو كقوله - تعالى -وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } وكقولهإِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } وقولهلَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } قال القاضى والقول الأول أقوى، لكى يصح قوله { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، إذ لو كانت حواء مخلوقة إبتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة. وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين أولهما وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له. فهو الذى خلقهم وهو الذى رزقهم، وهو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم، وهو الذى أوجد أبيضهم وأسودهم، وعربيهم وأعجميهم. وثانيهما وحدة النوع والتكوين، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم - عليه السلام -. فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم. وأن يخلصوا له العبادة والطاعة، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم وما لكهم ومدبر أمورهم. والمعنى يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه، وبأن تشكروه فلا تكفروه، فهو وحده الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته - سبحانه، ومن أقوى الدواعى إلى اتقاء موجبات نقمته، ومن أشد المقتضيات التى تحملكم على التعاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم - سبحانه - من نفس واحدة.

السابقالتالي
2 3 4 5