الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }

واللام فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ... } موطئة للقسم. أى والله لقد ضربنا وكررنا بأساليب متنوعة فى هذا القرآن العظيم، من كل مثل يحتاج إليه الناس فى أمورهم وشئونهم، وينتفعون به فى دنياهم ودينهم. وقوله - تعالى - { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تعليل لضرب المثل. أى فعلنا ذلك فى كتابنا الذى هو أحسن الحديث، كى يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرناهم به، أو نهيناهم عنه. فلعل هنا بمعنى كى التعليلية، وهذا التعليل إنما هو بالنسبة إلى غيره - تعالى -. وقوله - سبحانه - { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ... } ثناء آخر منه - تعالى - على كتابه الكريم. والجملة الكريمة حال مؤكدة من قوله قبل ذلك { هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ... } أى هذا القرآن قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض. قال صاحب الكشاف قوله { قُرْآناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كقولك جاءنى زيد رجلا صالحا، وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أى مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف. فإن قلت فهلا قيل مستقيما، أو غير معوج؟ قلت فيه فائدتان إحداهما نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قالوَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } والثانية أن لفظ العوج مختص بالمعانى دون الأعيان... وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، وأنشد
وقد أتاك غير ذى عوج من الإِله وقول غير مكذوب   
وقوله { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علة أخرى لاشتمال القرآن على الامتثال المتكررة المتنوعة. أى كررنا الأمثال النافعة فى هذا القرآن للناس، كى يتقوا الله - تعالى - ويخشوا عقابه. ثم ضرب - سبحانه - مثلا للعبد المشرك وللعبد المؤمن، فقال { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ... } وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب، و { رَّجُلاً } مفعوله الأول. وأخر عن المفعول الثانى للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته، وهو التمثيل لحال الكافر والمؤمن. وقوله { مُتَشَاكِسُونَ } من الشاكس بمعنى التنازع والتخاصم وسوء الخلق، يقال رجل شَكْس وشكِس - بفتح الشين مع إسكان الكاف أو كسرها وفعله من باب كرم - إذا كان صعب الطباع، عسر الخلق. وقوله " سلما " بفتح السين واللام - مصدر وصف به على سبيل المبالغة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " سالما " أى خالصا لسيده دون أن ينازعه فيه منازع. والمعنى إن مثل المشرك الذى يعبد آلهة متعددة، كمثل عبد مملوك لجماعة متشاكسين متنازعين لسوء أخلاقهم وطباعهم، وهذا العبد موزع وممزق بينهم، لأن أحدهم يطلب منه شيئا معينا، والثانى يطلب منه شيئا يباين ما طلبه الأول، والثالث يطلب منه ما يتناقض مع ما طلبه الأول والثانى... وهو حائر بينهم جميعا، لا يدرى أو يطيع ما أمره به الأول أم الثانى أم الثالث.

السابقالتالي
2 3