الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } * { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ }

والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى.. } لتوبيخ أولئك الكافرين الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. و { مَّا } فى قوله { مَّا خَلَقَ } للنفى، والباء فى قوله { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } للملابسة. وقوله { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } معطوف على الحق. والمعنى أبلغ الجهل بهؤلاء الكافرين، أنهم اكتفوا بالانهماك فى متع الحياة الدنيا، ولم يتفكروا فى أحوال أنفسهم وفى أطوار خلقها، لأنهم لو تفكروا لعلموا وأيقنوا، أن الله - تعالى - ما خلق السماوات والأرض وما بينهما، إلا ملتبسه بالحق الذى يشوبه باطل، وبالحكمة التى لا يحرم حولها عبث، وقد قدر - سبحانه - لهذه المخلوقات جميعها أجلا معينا تنتهى عنده، وهو وقت قيام الساعة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات. فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء الأشقياء، غفلتهم عن الدار الآخرة وما فيها من حساب، وتحضهم على التفكر فى تكوين أنفسهم، وفى ملكوت السماوات والأرض، لأن هذا التفكر من شأنه أن يهدىإلى الحق، كما تلفت أنظارهم إلى أن لهذا الكون كله نهاية ينتهى عندها، وقت أن يأذن الله - تعالى - بذلك، وبقيام الساعة. ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان موقف الأكثرية من الناس من قضية البعث والجزاء فقال { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }. أى وإن كثيرا من الناس لفى انشغال تام بدنياهم عن آخرتهم، ولا يؤمنون بما فى الآخرة من حسبا وثواب وعقاب، بل يقولون ما الحياة إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وعلى راس هذا الصنف من الناس مشركو مكة الذين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم فيهم، لإِخراجهم من الظلمات إلى النور. وقال - سبحانه - { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ.. } للإِشعار بان هناك عددا قليلا من الناس - بالنسبة لهؤلاء الكثيرين - قد آمنوا بلقاء ربهم، واستعدوا لهذا اللقاء عن طريق العمل الصالح الذى يرضى خالقهم - عز وجل -. ثم قرعهم - سبحانه - للمرة الثانية على عدم اتعاظهم بأحوال السابقين من الأمم قبلهم، فقال - تعالى - { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.. }. أى أقعد مشركو مكة فى ديارهم، ولم يسيروا فى الأرض سير المتأملين المتفكرين المعتبرين فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، من الأمم الماضية، كقوم عاد وثمود، وقوم لوط. وقوله - سبحانه - { كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } بيان لحال لهؤلاء الأقوام السابقين { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } أى كان أولئك السابقون أقوى من أهل مكة فى كل مجال من مجالات القوة، وكانوا أقدر منهم على حراثة الأرض، وتهيئتها للزراعة، واستخراج خيراتها من باطنها.

السابقالتالي
2