الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

قوله - تعالى - { مُّحْكَمَاتٌ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة، ترجع إلى شئ واحد هو المنع يقال أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال أحكمه عن الشئ أى أرجعه عنه ومنعه منه. ويقال حكم نفسه وحكم الناس، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق. ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب. وقوله { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } أى أصله الذى فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس فى دنياهم وآخرتهم. وأم كل شئ أصله وعماده. قال ابن جرير والعرب تسمى الأمر الجامع لمعظم الشئ أماً له. فيسمون راية القوم التى تجمعهم فى العساكر أمهم. ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها ". وقوله { مُتَشَابِهَاتٌ } من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباس غالباً. قال أمور مشتبة ومشبهة - كمعظمة - أى مشكلة. ويقال شبه عليه الأمر تشبيها لبس عليه. ولقد جاء فى القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما فى قوله - تعالى - { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما فى قوله - تعالى -ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما فى الآية التى نحن بصدد تفسيرها. ولا تعارض بين هذه الإِطلاقات الثلاثة، لأن معنى إحكامه كله أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب. ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التى قالها العلماء فى تحديد معنى كل منهما. فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح. ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه هو الذى لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا، لحصول الاختلاف فى تأويله. ومنهم من يرى أن المحكم هو الذى لا يحتمل فى تأويله إلا وجها واحداً والمتشابه هو الذى يحتمل أوجها. ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر. أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤول والمشكل. هذه بعض الأقوال فى تحديد معنى المحكم والمتشابه. وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير، ومعنى الآية الكريمة - بعد هذا التمهيد الموجز الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو الحى القيوم، والذى أنزل الكتب السماوية لهداية الناس، والذى صورهم فى الأرحام كيف يشاء، وهو الذى أنزل عليك - يا محمد - هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل هذا الكتاب { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } أى واضحات الدلالة، محكمات التراكيب، جليات المعانى، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس فى معاشهم ومعادهم، بينات لا التباس فيها ولا اشتباه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7