الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

قوله - تعالى - { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } كلام مستأنف، وقصة مستقلة سيقت فى تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك مع ما فى إيرادها من تقرير ما سيقت له قصة مريم وأمها من بيان اصطفاء آل عمران. و " هنا " ظرف يشار به إلى المكان القريب كما فى قوله - تعالى -إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وتدخل عليه اللام والكاف " هنالك " أو الكاف وحدها " هناك " فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا. والمعنى فى ذلك المكان الطاهر الذى كان يلتقى فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغرائب، تحركت فى نفس زكريا عاطفة الأبوة، وهو الشيخ الكبير الذى وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، وبلغ من الكبر عتياً - فدعا الله تعالى - بقلب سليم، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة، أن يرزقه الذرية الصالحة. ولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال { قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }. أى، قال زكريا مناجيا ربه يا رب أنت الذى خلقتنى، وأنت الذى لا يقف أمام قدرتك شىء، وأنت الذى جعلتنى أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لى يا خالقى من عندك ذرية صالحة تقر بها عينى، وتكون خلفا من بعدى { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أى إنك عليم بدعائى علم من يسمع، قريب الإِجابة لمن يدعوك، فإن أجبت لى سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه، فبعدلك وحكمتك. فأنت ترى فى هذا الدعاء الذى صدر عن زكريا - عليه السلام - أسمى ألوان الأدب والخشوع والإِنابة. فقد رفع أكف الضراعة فى مكان مقدس طاهر، وفى التعبير بقوله { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } إشارة إلى تسليمه لله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شىء، فهو الذى خلقه ورباه وتولاه برعايته فى كل أدوار حياته. وفى قوله { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } إشعار بأنه يريد من خالقه - عز وجل - أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر فى هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعداً إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التى يحصل فيها الانجاب فى العادة. أى هب لى من عندك لا من عندى، لأن الأسباب عندى أصبحت مستبعدة. وفى تقييد الذرية بكونها طيبة، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه، ونقاء سريرته، وحسن صلته بربه، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير فى الدنيا والآخرة. وجملة { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } تعليلية، أى إنى ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مخيب للرجاء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8