الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } * { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } * { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } * { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } * { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }

قوله تعالى { إِذَا رَأَتْهُمْ.. }. الضمير فيه يعود إلى " سعيرا " والتغيظ فى الأصل إظهار الغيظ، وهو شدة الغضب الكامن فى القلب. والزفير ترديد النفس من شدة الغم والتعب حتى تنتفخ منه الضلوع، فإذا ما اشتد كان له صوت مسموع. والمعنى أن هؤلاء الكافرين الذين كذبوا بالساعة، قد أعتدنا لهم بسبب هذا التكذيب نارا مستعرة، إذا رأتهم هذه النار من مكان بعيد عنها. سمعوا لها غليانا كصوت من اشتد غضبه، وسمعوا لها زفيرا. أى صوتا مترددا كأنها تناديهم به. فالآية الكريمة تصور غيظ النار من هؤلاء المكذبين تصويرا مرعبا، يزلزل النفوس ويخيف القلوب. والتعبير بقوله - تعالى - { مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يزيد هذه الصورة رعبا وخوفا، لأنها لم تنتظرهم إلى أن يصلوا إليها، بل هى بمجرد أن تراهم من مكان بعيد - والعياذ بالله - يسمعون تغيظها وزفيرها وغضبها عليهم، وفرحها بإلقائهم فيها. قال الآلوسى وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر، وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد، إذ لا امتناع فى أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار، فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية، وكقوله - تعالى -يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري " شكت النار إلى ربها فقالت رب أكل بعضي بعضاً، فأَذِنَ لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف.. ". ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما يستقرون فيها فقال { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }. أى أن النار إن رأت هؤلاء المجرمين سمعوا لها ما يزعجهم ويفزعهم، { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } أى وإذا ما طرحوا فيها فى مكان ضيق منها، حالة كونهم { مُّقَرَّنِين } أى مقيدين بالأغلال بعضهم مع بعض أو مع الشياطين الذين أضلوهم. { دَعَوْاْ هُنَالِكَ } أى تنادوا هنالك فى ذلك المكان بقولهم { ثُبُوراً } أى هلاكا وخسرانا يقال فلان ثبره الله - تعالى - أى أهلكه إهلاكا لا قيام له منه. أى يقولون عندما يلقون فيها، يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك، فإنك أرحم بنا مما نحن فيه. ووصف - سبحانه - المكان الذى يلقون فيه بالضيق، للإشارة إلى زيادة كربهم، فإن ضيق المكان يعجزهم عن التفلت والتململ. هنا يسمعون من يقول لهم على سبيل الزجر والسخرية المريرة، { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً }. أى اتركوا اليوم طلب الهلاك الواحد. واطلبوا هلاكا كثيرا لا غاية لكثرته، ولا منتهى لنهايته. قال صاحب الكشاف قوله { وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } أى أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم.

السابقالتالي
2