الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

قال الآلوسى قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } عطف على ما قبله، من باب عطف القصة على القصة، أو على مقدر ينساق إليه ما قبله، كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة. والمراد بأعمالهم هنا الأعمال الصالحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا كالإِحسان إلى الفقراء، وصلة الأرحام وما يشبه ذلك. والسراب هو الشعاع الذى يتراءى للناظر من بعيد كأنه ماء. ويكون ذلك فى وسط النهار عند اشتداد الحر، فى الأماكن الواسعة، وسمى سرابا لأنه يرى من بعيد يتسرب فوق الأرض كأنه ماء، مع أنه ليس بماء ولا غيره. والباء فى قوله { بِقِيعَةٍ } بمعنى فى. والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط واتسع من الأرض. دون أن يكون فيه زرع، وفوقه يتراءى السراب. والجار والمجرور متعلق بمحذوف، صفة للسراب. أى والذين كفروا بالحق لما جاءهم أعمالهم الصالحة فى الدنيا التى يتوقعون الخير من ورائها، تكون بالنسبة لهم يوم القيامة، كسراب كائن فى صحراء واسعة، " يحسبه الظمآن ماء ". أى يظن الشخص الذى اشتد به العطش أنه ماء. وخص - سبحانه - هذا الحسبان بالظمآن، مع أن كل من يراه يظنه ماء لأن هذا الذى اشتد به العطش أشد حرصا على طلبه من غيره، فالتشبيه به أتم وأكمل. و " حتى " فى قوله - سبحانه - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } غاية لمحذوف، والتقدير هذا السراب يظنه الظمآن ماء فيسرع نحوه، حتى إذا ما وصل إليه، لم يجد ما حسبه ماء وعلق عليه آماله شيئا أصلا، لا ماء ولا غيره. فأنت ترى أن الله - تعالى - قد شبه ما يعمله الكافرون من أعمال البر فى الدنيا، التى يظنونها نافعة لهم - شبه هذه الأعمال من حيث خيبة أملهم فيها بسراب يحسبه الظمآن ماء، فيذهب إليه ليروى عطشه، فإذا ما وصل إليه لم يجده شيئا، فيخيب أمله، وتشتد حسرته. قال الإمام الرازى فإن قيل قوله " حتى إذا جاءه " يدل على كونه شيئا، وقوله " لم يجده شيئا " مناقض له؟ قلنا الجواب عنه من وجوه ثلاثة الأول المراد معناه أنه لم يجد شيئا نافعا، كما يقال فلان ما عمل شيئا وإن كان قد اجتهد الثانى حتى إذا جاءه أى جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه. الثالث الكناية للسراب، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا قرب منه رق وانتثر وصار كالهواء. وقوله - سبحانه - { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } معطوف على جملة " لم يجده " فهو داخل التشبيه أى ووجد الظمآن حكم الله - تعالى - وقضاءه فيه عند السراب، فوفاه - سبحانه - حسابه الذى يستحقه كاملا غير منقوص.

السابقالتالي
2 3