الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ }

افتتحت سورة الحج بهذا النداء الموجه من الخالق - عز وجل - إلى الناس جميعاً، يأمرهم فيه بامتثال أمره، وباجتناب نهيه، حتى يفوزوا برضاه يوم القيامة. وقوله - سبحانه - { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } تعليل للأمر بالتقوى. قال القرطبى الزلزلة شدة الحركة، ومنه قوله - تعالى -... وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ... } وأصل الكلمة من زل فلان عن الموضع، أى زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه، أى حركها وهذه اللفظة تستعمل فى تهويل الشىء ". وقال الآلوسى " والزلزلة التحريك الشديد، والإِزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث يزيل الأشياء من مقارها، ويخرجها من مراكزها. وإضافتها إلى الساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله، لكن على سبيل المجاز فى النسبة كما فى قوله - تعالى -بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } لأن المحرك حقيقة هو الله - تعالى -، والمفعول الأرض أو الناس، أو من إضافته إلى المفعول، لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعاً كما فى قوله " يا سارق الليلة أهل الدار... ". والمعنى يأيها الناس اتقوا ربكم إتقاء تاماً، بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه، وبأن تسارعوا إلى فعل ما يحبه، لأن ما يحدث فى هذا الكون عند قيام الساعة، شىء عظيم، ترتجف لهوله القلوب، وتخشع له النفوس. وقال - سبحانه - { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } بصيغة الإِجمال والإِبهام لهذا الشىء العظيم، لزيادة التهويل والتخويف. ثم فصل - سبحانه - هذا الشىء العظيم تفصيلاً يزيد فى وجل القلوب فقال { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ... }. والضمير فى " ترونها " ، يعود إلى الزلزلة لأنها هى المتحدث عنها والظرف " يوم " منصوب بالفعل تذهل، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم. والذهول الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف، ومنه قول عبد الله ابن رواحة - رضى الله عنه -
ضربا يُزيل الهامَ عن مَقِيله ويُذْهِل الخليلَ عن خليله   
أى أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذى ألقمته ثديها. وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع. قال صاحب الكشاف " فإن قلت لم قيل { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع؟ قلت المرضعة التى هى فى حال الإِرضاع ملقمة ثديها الصبى، والمرضع التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإِرضاع فى حال وصفها به، فقيل مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها أو عن الذى أرضعته وهو الطفل.

السابقالتالي
2 3