الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } * { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } * { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } * { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى }

وقوله { ضَنكاً } أى شديدة الضيق. وكل شىء ضاق فهو ضنك. وهو مصدر يستوى فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع يقال ضنك - ككرم - عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق. والمعنى أن من اتبع هداى الذى جاءت به رسلى فلن يضل ولن يشقى، أما من أعرض عن { ذِكْرِي } أى عن هداى الذى جاءت به رسلى، واشتملت عليه كتبى { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }. أى فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة، حتى ولو ملك المال الوفير، والحطام الكثير.. فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه... قال - تعالى -مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قال الإمام ابن كثير قوله - تعالى - { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أى فى الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى. فهو فى قلق وحيرة وشك، فلا يزال فى ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة... وقال سفيان بن عيينة، عن أبى حازم، عن أبى سلمة، عن ابى سعيد فى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال يضيق عليه قبره. حتى تختلف أضلاعه. والمراد بالعمى فى قوله - سبحانه - { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } عمى البصر، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً }. وقوله - سبحانه - فى آية أخرىوَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } وقيل المراد بالعمى هنا أنه لا حجة له يدافع بها عن نفسه، وقيل المراد به العمى عن كل شىء سوى جهنم. والذى يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الحق، لأنه هو الظاهر من الآية الكريمة، ولا قرينة تمنع من إرادة هذا الظاهر. ويجمع بين هذه الآية وما يشبهها وبين الآيات الأخرى التى تدل على أن الكفار يبصرون ويسمعون ويتكلمون يوم القيامة، والتى منها قوله - تعالى -أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا.. } أقول يجمع بين هذه الآية وما يشبهها، وبين الآيات الأخرى بوجوه منها أن عماهم وصممهم فى أول حشرهم، ثم يرد الله - تعالى - عليهم بعد ذلك أبصارهم وسمعهم، فيرون النار، ويسمعون ما يحزنهم. قال الجمل قوله { أَعْمَىٰ } حال من الهاء فى نحشره، والمراد عمى البصر وذلك فى المحشر، فإذا دخل النار زال عنه عماه ليرى محله وحاله، فهو أعمى فى حال وبصير فى حال أخرى.

السابقالتالي
2 3