الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } * { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }

ففى هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بضرب من النعم التى أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام. والمراد بالكتاب الذى أعطاه الله لموسى التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما. ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإِرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. يقال قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه. وقفيته زيداً وبه أتبعته إياه. واشتقاقه من قفوته إذا أتبعت قفاه، والقفا مؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه. والرسل جمع رسول بمعنى مرسل، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - منهم داود، وسليمان، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام -. فمن مظاهر نعم الله على بنى إسرائيل، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين، لكى يبشروهم وينذروهم، ولكن بنى إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فقد حرفوا كتب الله، وقتلوا بعض أنبيائه. والمراد بالبينات فى قوله { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإِخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك من المعجزات التى أيد الله بها عيسى - عليه السلام -. وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام -. وفى إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر. وقوله { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أى قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة. وروح القدس هو جبريل - عليه السلام -، قال - تعالى -قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ... } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أى الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقى فى أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام. أى أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه فى نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذى أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام -. ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }. أى أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب وتهوى من هوى إذا أحب " والهوى يكون فى الحق ويكون فى الباطل كما فى هذه الآية.

السابقالتالي
2