الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } * { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

الاعتداء مجاوزة الحد، يقال اعتدى فلان وتعدى إذا ظلم. والسبت المراد به اليوم المسمى بهذا الاسم، وأصل السبت - كما قال ابن جرير - الهدوء والسكون فى راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته. كما قال - جل ثناؤه -وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أى راحة لأبدانكم، وهو مصدر، من قول القائل سبت فلان يَسبِت سبتاً. وملخص قصة اعتداء بنى إسرائيل فى يوم السبت، أن الله - تعالى - أخذ عليهم عهداً بأن يتفرغوا لعبادته فى ذلك اليوم، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام، وقد أراد - سبحانه - أن يختبر استعدادهم للوفاء بعودهم، فابتلاهم بتكاثر الحيتان فى يوم السبت دون غيره، فكانت تتراءى لهم على الساحل فى ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذى يزخر بالأسماك يوم السبت حياضاً تنساب إليها المياه فى ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض فى يوم الأحد وما بعده، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا فى يوم السبت، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا إنما هو امتثال ظاهرى لأمر الله، ولكنه فى حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد فى يوم السبت، فلم يعبأ أكثرهم بذلك، بل نفذ تلك الحيلة، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم.. والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا فى سورة الأعراف كما جاءت الإِشارة إليه فى سورتى النحل والنساء. ثم بين - سبحانه - العقوبة التى حلت بهم بسبب اعتدائهم فى يوم السبت، وتحايلهم على استحلال محارم الله فقال - تعالى - { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }. أى صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء. والخسوء الطرد والإِبعاد. يقال خسأت الكلب خسأ وخسوءاً - من باب منع - طردته وزجرته، وذلك إذا قلت له اخسأ. وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير. ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم، أى إنهم مسخوا مسخاً نفسياً فصاروا كالقردة فى شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها. وتلك العقوبة كانت بسبب إمعانهم فى المعاصى، وتأبيهم عن قبول النصيحة، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإِنسان، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان. والضمير فى قوله { فَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى العقوبة التى هى مسخهم قردة و { نَكَالاً } أى عبرة تنكل المعتبر بها بحيث تمنعه وتردعه من ارتكاب الشر. يقال نكل به تنكيلا إذا صنع به صنعاً يردعه ويجعل غيره يخاف ويحذر.

السابقالتالي
2