الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

الغمام جمع غمامة، وهى السحابة، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض. والمن اسم جنس لا واحد من لفظه، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة العسل. والسلوى اسم جنس جمعى، واحدته سلواة، وهر طائر برى لذيذ اللحم، سهل الصيد، يسمى بالسمانى، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء، فيمسكونه قبضاً بدون تعب. وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، كان فى مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالىقَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في ٱلأَرْضِ } قال السدى " لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما هاهنا، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه فكان يأتى أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين، فقالوا هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل الله عليهم الغمام. قالوا هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب، فذلك قوله تعالى { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ... }. ومعنى الآية الكريمة واذكروا يا بنى إسرائيل من بين نعمى عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم فى التيه ليقيكم حر الشمس، وحرارة الجو، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهى بدون تعب منكم فى تحصيله لهلكتم، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذى رزقكم هذه النعم، ولكنكم كفرتم بها، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شىء، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضرونى ولن يبلغوا نفعى فينفعونى. فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. وقوله تعالى { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف، أى فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر. ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها فى أنها من أحوال بنى إسرائيل. والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كَانُوۤاْ } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم، لأنك لا تقول فى ذم إنسان كان يسىء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى. قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - فى تفسير قوله تعالى { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه هذا من الذى استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه، وذلك أن معنى الكلام كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أى ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد فى ملكه عدل عادل، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصى، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.

السابقالتالي
2