الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }

قوله { بَرَزُواْ } أى صاروا إلى إبراز الأرض وهو ما انكشف منها بحيث يصير كل فريق من المتقاتلين يرى صاحبه، ومنه سميت المبارزة فى الحرب لظهور كل قرن إلى قرنه. أى وحين برز طالوت ومن معه لقتال جالوت وجنوده، وأصبح الفريقان فى مكان متسع من الأرض بحيث يرى كل فريق خصمه اتجه المؤمنون إلى الله - تعالى - بالدعاء قائلين بإخلاص وخشوع { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } أى أفض علينا صبرا يعمنا، ويملأ قلوبنا ثقة بنصرك، ويحبس نفوسنا على طاعتك. قال الإِمام الرازى ما ملخصه، الإِفراغ الصب. يقال أفرغت الإِناء إذا صببت ما فيه. وقولهم هذا يدل على المبالغة فى طلب الصبر من وجهين أحدهما أنه إذا صب الشىء فى الشىء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه وهذا يدل على التأكيد. والثانى " أن افراغ الإِناء هو إخلاؤه وذلك يكون بصب كل ما فيه، فمعنى أفرغ علينا صبرا، أى أصبب علينا أتم صب وأبلغه - حتى تتحقق فينا صفة الصبر كأحسن ما يكون التحقق ". أما الدعوة الثانية فقد قالوا فيها - كما حكى القرآن عنهم - { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أى هب لنا من كمال القوة والرسوخ عند القتال ما يجعلنا نثبت أمام أعدائنا، ونتمكن من رقابهم دون أن يتمكنوا منا. فهذا الدعاء كناية عن أن يمنحهم - سبحانه - الثبات عند الزحف، وعدم الفرار عند القتال. وفى قوله { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } تعبير بالجزء عن الكل، لأن الأقدام هى التى يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد عن الفرار، ومتى حصل الثبات كان النصر متوقعاً، والصبر متحققاً. ثم ختموا دعاءهم بأن قالوا { وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } أى اجعل الغلبة لنا عليهم، لأننا مؤمنون بأنك المعبود المستحق للعبادة وهم يكفرون بذلك. والمتأمل فى هذه الدعوات الثلاث يراها قد جمعت أسمى ألوان الأدب وحسن الترتيب، فهم قد صدروا دعاءهم بالتوسل بوصف الربوبية فقالوا { رَبَّنَآ } أى يا خالقنا ويا منشئنا ويا مربينا ويا مميتنا، وفى ذلك إشعار أنهم يلجأون إلى من بيده وحده النفع والضر، والنصر والهزيمة. ثم افتتحوا دعاءهم بطلب الصبر عند المخاوف لأنه هو عدة القتال الأولى، وركنه الأعلى، إذ به يكون ضبط النفس فلا تفزع، وبه يسكن القلب فلا يجزع. ثم التمسوا منه - سبحانه - أن يثبت أقدامهم عند اللقاء لأن هذا الثبات هو مظهر الصبر، ووسيلة النصر، وعنوان القوة. ثم ختموا دعاءهم بما هو ثمرة ونتيجة للصبر والثبات وهو النصر على الأعداء. فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذى حكاه القرآن فى قوله { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }. وأصل الهزم فى اللغة الكسر.

السابقالتالي
2 3 4 5