الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قال الآلوسى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَر } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتى - كالأحبار وأهل التواريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت فى ذلك حتى أجريت مجرى المثل فى هذا الباب، بأن شبه من " لم ير " الشىء بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه وأنه ينبغى أن يتعجب منه، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى، قصداً إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب. ثم قال والرؤية إما بمعنى الإِبصار مجازاً عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار، لأن النظر اختيارى دون الادراك الذى بعده. وإما بمعنى الإِدراك القلبى متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت - أى الرؤية - بإلى فى قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ.. }. والمعنى قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإِنسان العاقل - حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التى ألفوها واستوطنوها، وهم ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة، وما كان خروجهم إلا فرارا وخوفاً من الموت الذى سيلاقيهم - إن عاجلا أو آجلا -. ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعاً على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعاً وجبناً، وتحريضهم على القتال فى سبيل الله فقد قال - تعالى - بعد ذلك { وَقَاتِلُواْ فى سَبِيلِ اللَّهِ... } وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدى إلا إلى الوقوع فيه. وقوله { وَهُمْ أُلُوفٌ } جملة حالية من الضمير فى { خَرَجُواْ } و { أُلُوفٌ } جمع ألف. والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هرباً من الموت. وقيل إن معنى { وَهُمْ أُلُوفٌ } أنهم خرجوا مؤتلفى القلوب، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم، ولا عن تباغض حدث بينهم. وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود. قالوا والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمه يفيد مزيد اعتبار بحالهم، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة. وقوله { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أى خرجوا لحذر الموت وخشيته، فقوله { حَذَرَ } منصوب على أنه مفعول لأجله. الجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله - تعالى - بالموت الذى هربوا منه فقال { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أى فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7