ففى هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذى خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه، وبيان البراهين الساطعة التى تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته. و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا، فهو أصل حروف النداء. و " أى " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذى يأتى بعده. و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء. و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية. وقد كثر النداء فى القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذى كثيراً ما يقتضيه المقام. وفى ذكره تعالى باسم الرب، وإضافته إلى المخاطبين، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته. فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكا له، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق، وما يجود به عليه من إنعام، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال. وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله. ثم بين - سبحانه - الموجبات التى من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }. والخلق أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية، ويطلق فى القرآن وفى عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر. والمعنى اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده، لأنه هو الذى أوجدكم فى أحسن تقويم بعد أن كنتم فى عدم، كما أوجد الذين تقدموكم. وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره. وقوله تعالى { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. فكان قوله { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى. وجملة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعليل للأمر بالعبادة، ولذلك فصلت. و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجى، وهو توقع حصول الشىء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه. والشىء المتوقع حصوله فى الآية هو التقوى وسببه العبادة، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درجة التقوى وهى الفوز بالهدى والفلاح، والترجى قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل فى الكلام على أن يكون الترجى مصروفاً للمخاطب، فيكون المترجى هو المخاطب لا المتكلم، وعلى هذا الوجه يحمل الترجى فى هذه الآية، لاستحالة توقع حصول الشىء من عالم الغيب والشهادة، لأن توقع الإِنسان لحصول الشىء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع، وعليه فيكون المعنى اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين، الذين بلغوا الغاية فى الهدى والفلاح.