الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } * { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت صنفين من الناس. أولهما يمثل الأشرار. والثانى يمثل الأخيار. أما الصنف الأول فقد وصفه الله - تعالى - بخمس صفات، الصفة الأولى حكاها فى قوله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }. يعجبك من الإِعجاب بمعنى الاستحسان، تقول. أعجبنى هذا الشىء، أى استحسنته وعظم فى نفسى. و " من " للتبعيض. والمعنى ومن الناس فريق يروقك منطقهم، ويعجبك بيانهم، ويحسن عندك مقالهم. فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر، المر الباطن، وأنت فى هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم، أما فى الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذى لا تخفى عليه خافية، وسيعاقبهم عقابا أليماً لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم الفعل القبيح. وعلى هذا التفسير يكون قوله { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } متعلقاً بيعجبك. وبعضهم يجعل قوله { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } متعلقاً بالقول فيكون المعنى عليه ومن الناس فريق يعجبك قولهم إذا ما تكلموا فى شئون الدنيا ومتعها لأنها منتهى آمالهم، ومبلغ علمهم، وأصل حبهم، ومن أحب شيئاً أجاد التعبير عنه، أما الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها، لأنهم لا يهتمون بها، بل هم غافلون عنها، ومن شأن الغافل عن شىء ألا يحسن القول فيه. ويبدو لنا أن تعلق الجار والمجرور بيعجبك أرجح، لأنه يتفق مع السياق إذ سياق الحديث فى شأن الذين يقولون بأفواههم لما ليس فى قلوبهم، ويخدعون الناس بمعسول بيانهم مع أن نفوسهم مريضة، وليس فى شأن الذين يحسنون الحديث عن شئونها المختلفة، بل إن بعض الذين يحسنون الحديث فى شئون الدنيا لم يضيعوا أخراهم وإنما عمروها بالعمل الصالح، فهم جامعون بين حسنتى الدنيا والآخرة. والصفة الثانية من صفات هذا النوع المنافق من الناس بينه القرآن بقوله { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فى قَلْبِهِ } أى يقرن معسول قوله، وظاهر تودده، بإشهاد الله على أن ما فى قلبه مطابق لما يجرى على لسانه. وكأن هذا النوع المنافق قد رأى من الناس تشككاً فى قوله، لأن من عادة المنافقين أن يبدو من فلتات لسانهم ما يدل على ما هو مخبوء فى نفوسهم فأخذ يوثق قوله بالأيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه الله يشهد أنى صادق فيما أقول.. إلى غير ذلك من الأقوال التى يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه، فالمراد بإشهاد الله الحلف به أن ما فى قلبه موافق لقوله. وجملة { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ } حالية أو مستأنفة أو معطوفة على قوله { يُعْجِبُكَ }. وقوله - تعالى - { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } صفة ثالثة من صفات هذا النوع من الناس. قال القرطبى الألد الشديد الخصومة والعداوة.. ولددته - بفتح الدال - الده - بضمها - إذا جادلته فغلبته.

السابقالتالي
2 3 4 5 6