الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قوله تعالى { مَثَلُهُمْ } أى صفتهم، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده الذى ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل فى هذه الآية. وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى وتقريب المعقول من المحسوس، وعرض الغائب فى صورة الشاهد، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب، وأثبت فى النفوس. واستوقد النار طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبها، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب. والنار جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها، وأضاءت ما حوله جعلت ما حوله مضيئاً، أو أشرقت فيما حوله. وحول الشىء ما يحيط به من جميع نواحيه، ولذا قيل للعام حول، للفه ودورانه حتى يعود كما كان. والنور الضوء الذى يكون للشىء المضىء، وهو مأخوذ من النار. ومعنى { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } سلبه منهم، وفى إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذى سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم، لأن الذى سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره. وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة فى المثل إنما هو الإِضاءة. وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره، مع أن الضمير يعود على { ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } وهو بحسب الظاهر مفرد، لأن { ٱلَّذِي } قد يطلق أحيانا بمعنى الذين، كما فى قوله تعالىوَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤا } أو لأن { ٱلَّذِي } أريد منه جنس المستوقد، لا مستوقد بعينه، فصار فى معنى جماعة من المستوقدين. وصح أن يعود عليه ضمير الجمع فى قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك. وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة فى شدتها، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أى أن هذه الظلمات بالغة فى الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم. وعبر - سبحانه - بقوله { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل ذهب بنورهم وبقوا فى ظلمات، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم. هذا، وللعلماء رأيان فى تطبيق هذا المثل على المنافقين، أما الرأى الأول فيرى أصحابه، أن هذا المثل قد ضرب فى قوم دخلوا فى الإِسلام عند وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال فى تطبيق هذا المثل عليهم إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم، ووقعوا فى حيرة عظيمة، كقصة من استوقدوا ناراً فلما أضاءت ما حولهم، سلب الله منهم الضوء فراحوا فى ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6