الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } * { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله - تعالى - { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } قد استفاض فى عرف الشرع بمعنى وجب عليكم. و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه فى هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه، وظهور أماراته، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ. وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب، ومن ذلك قول شاعرهم
يأيها الراكب المزجى مطيته سائل بنى أسد ما هذه الصوت وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إنى أنا الموت   
والخير المال، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير، لأن مقام الوصية يشعر بذلك، ولم يرد نص من الشارع فى تقدير ما يسمى مالا كثيراً، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين فى تقديره بحسب اجتهادهم، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم من ألف درهم إلى خمسمائة درهم، وقال بعضهم من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم. والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف. ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة فى المال قليلة وكثيرة. قال القرطبى والوصية عبارة عن كل شىء يؤمر بفعله ويعهد به فى الحياة بعد الموت، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصى يكون الموصى والموصى إليه. وأصله من وصى مخففاً. وتواصى النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية متصلة النبات. وأوصيت له بشىء. وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضاً. والمعنى كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت من مرض ثقيل، أو شيخوخة مضعفة، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال، أن يوصى بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذى لا مضارة فيه بين الأقارب، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريفاً لهم. فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية. وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية. فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدى ذلك إلى التباغض والتحاسد، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهى. فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادى. قال الجمل وكتب فعل ماض مبنى للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفى القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون الوصية، أى كتب عليكم الوصية، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه.

السابقالتالي
2 3 4