الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

{ كُتِبَ } من الكتب، وهو فى الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وتعورف فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأطلق على المضموم فى اللفظ وإن لم يكتب بالخط، ومنه الكتابة، ويطلق الكتب والكتاب والكتابة على الإِيجاب والفرض لأن الشأن فيما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب، ومنهكُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } أى فرض عليكم. { ٱلْقِصَاصِ } العقوبة بالمثل من قتل أو جرح. وهو - كما قال القرطبى - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله فى ذلك، ومنهفَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } وقيل القص القطع. يقال قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به. يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه، أى اقتص منه ". فمادة القصاص تدل على التساوى والتماثل والتتبع. والقتلى جمع قتيل، والقتيل من يقتله غيره من الناس. والمعنى يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى. بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التى قررها الشارع الحكيم، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا فى القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه. فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه فى نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به. وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدى، وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أى القصاص - من القاتل. ولفظ " فى " فى قوله - تعالى - { فِي ٱلْقَتْلَى } للسببية، أى فرض عليكم القصاص بسبب القتلى. كما فى قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار فى هرة " أى بسببها. وصدرت الآية بخطاب { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص الذى شرعه الخبير بنفوس خلقه، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التى شرعها لإِقامة الأمان والاطمئنان بين الناس، ولسد أبواب الفتن التى تحل عرا الألفة والمودة بينهم. وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإِشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التى شرعها الله. وإذا لم يقيموها بالطريقة التى بينتها شريعته، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل. وذلك بتسليم الجانى إلى المكلفين بحفظ الأمن، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل، وغير ذلك من وجوه المساعدة. وقوله - تعالى - { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ } بيان لمعنى المساواة فى القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة، ومفادها أنه لا يقتل فى مقابل المقتول سوى قاتله، لأن قتل غير الجانى ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة فى الأرض وفساد كبير.

السابقالتالي
2 3 4 5