الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } * { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } * { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ }

قال الآلوسى أخرج جماعة عن ابن عباس قال سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجه بن زيد نفراً من أحبار يهود عما فى التوراة من صفات النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض الأحكام فكتموا، فأنزل الله - تعالى - فيهم هذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ }... إلخ. والكتم والكتمان إخفاء الشىء قصداً مع مسيس الحاجة إليه وتحقق الداعى إلى إظهاره. وكتم ما أنزل الله يتناول إخفاء ما أنزله، وعدم ذكره للناس وإزالته عن موضعه ووضع شىء آخر موضعه، كما يتناول تحريفه بالتأويل الفاسد عن معناه الصحيح جرياً مع الأهواء، وقد فعل أهل الكتاب ولا سيما اليهود - كل ذلك. فقد كانوا يعرفون مما بين أيديهم من آيات أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق، ولكنهم كتموا هذه المعرفة حسداً له على ما آتاه الله من فضله، كما أنهم حرفوا كلام الله وأولوه تأويلا فاسداً تبعاً لأهوائهم. والمراد " بما أنزلنا " ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبى صلى الله عليه وسلم ومن هداية وأحكام. والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التى أنزلت على الرسل - عليهم السلام - وقيل المراد به التوراة. و { ٱلْبَيِّنَاتِ } جمع بينة، والمراد بها الآيات الدالة على المقاصد الصحيحة بوضوح، وهى ما نزل على الأنبياء من طريق الوحى. والمراد بـ { ٱلْهُدَىٰ } ما يهدى إلى الرشد مطلقاً فهو أعم من البينات، إذ يشمل المعانى المستمدة من الآيات البينات عن طريق الاستنباط، والاجتهاد القائم على الأصول المحكمة. و " اللعن " الطرد والإِبعاد من الرحمة. يقال لعنه، أى طرده وأبعده ساخطاً عليه، فهو لعين وملعون. والمعنى إن الذين يخفون عن قصد وتعمد وسوء نية ما أنزل الله على رسله من آيات واضحة دالة على الحق، ومن علم نافع يهدى إلى الرشد، من بعد ما شرحناه وأظهرناه للناس فى كتاب يتلى، أولئك الذين فعلوا ذلك { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } بأن يبعدهم عن رحمته { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } أى ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة - كالملائكة والمؤمنين - بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره. وجملة { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ... } إلخ، مستأنفة لبيان سوء عاقبة الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، وأكدت " بإن " للاهتمام بهذا الخبر الذى ألقى على مسامع الناس. وعبر فى { يَكْتُمُونَ } بالفعل المضارع، للدلالة على أنهم فى الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضى لتوهم السامع أن المقصود به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين. وقوله { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فى ٱلْكِتَابِ } متعلق بيكتمون، وقد دلت هذه الجملة الكريمة على أن معصيتهم بالكتمان فى أحط الدركات وأقبحها لأنهم عمدوا إلى ما أنزل الله من هدى، وجعله بينا للناس فى كتاب يقرأ، فكتموه قصداً مع تحقق المقتضى لإِظهاره، وإنما يفعل ذلك من بلغ الغاية فى سفاهة الرأى، وخبث الطوية.

السابقالتالي
2 3 4