الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

الفساد خروج الشىء عن حالة الاعتدال والاستقامة، وعن كونه منتفعاً به، وضده الصلاح، يقال فسد الشىء فساداً، وأفسده إفساداً. والمراد به هنا كفرهم، ومعاصيهم، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد فى الأرض، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة. ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين، ما كانوا يدعون إليه فى السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه فى طريق دعوته، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول. وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض. وعلق بالفعل الذى هو الإِفساد قوله { فِي ٱلأَرْضِ } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد فى الاحتياط له، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون فى بقعة محصورة هى المدينة المنورة. ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }. فقد بالغوا فى الرد فحصروا أنفسهم أولاً فى الإِصلاح مبالغة المفجوع الذى أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم فى الإِصلاح ثابت لازم. قال الراغب صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما فى قلوبهم من المرض، كما فى قوله - تعالى -أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وقولهوَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وقولهقُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً فى دعواهم أنهم مصلحون فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع فى الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس، حاصر الذهن. ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها وصل " ألا " " بإن " الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ، ومنها اسمية الجملة، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد فى مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون.

السابقالتالي
2